كم من الصعب والمؤلم الحديث عن رفيق طبيب ومعلم تقدم الصفوف حاملاً راية الكفاح منذ تشكل وعيه السياسي وروحه على كفه، تعلمنا منه الكثير الهدوء والأمل، ومنحنا الطمأنينة ولم نره يوماً متشائماً حتى في أحلك الظروف وأشدها مرارةً، كان مبتسماً دوماً يمنح كل من حوله التفاؤل، والثقة بالشعب ومصالحه وأهدافه التي كانت بوصلته دوماً.
تعرفت على عبد العزيز في ظروفٍ صعبةٍ عندما كان الحزب يلملم جراحه ويجمع خيوط رفاقه التي قطعتها الحملة الوحشية الأقسى في تاريخ الحزب. جرى اعتقال العديد من أعضاء القيادة الحزبية المعروفين في الحملة العاشرة ضد حزب العمل الشيوعي في عام 1987-1988، ولم تكن إلا جولةً أخرى من معركة القمع الدكتاتوري التي يشنها النظام ضد الحزب منذ 1977، واستمراراً لسياسته القائمة على مبدأ القمع والإخضاع، ولكنها جولة شديدة، جاءت على أرضية قرار (الحرب الشاملة والمفتوحة) الذي اعتمدت نهاية عام 1985، لقد أعد لها النظام لتكون الأشد قسوةً وشمولاً والأكثر تعبيراً لتوجيه ضربةٍ قاصمة طالما حلم بها. وقد برزت خصوصية هذه الحملة في عدة مجالات: الضخامة والشمول وأخذ الرهائن من عائلات المناضلين الملاحقين والحرب النفسية والشائعات، ونشر الأكاذيب وبث الرعب في صفوف الشعب، حيث طالت الاعتقالات والتحقيقات أكثر من ألفي مواطن في المدن السورية كافة، إضافةً للكثير من زوجات المناضلين وعائلاتهم.
اضطر الحزب آنذاك إلى تكتيك الهجوم السياسي والكمون التنظيمي، واتخاذ أقصى إجراءات الحذر الأمني للحفاظ على تنظيمه أمام حملةً وحشيةٍ هوجاء طالت العديد من الرهائن، ذوي المناضلين الملاحقين، للضغط على الرفاق الملاحقين، وتحميلهم مسؤولية الرهائن! في أوساطهم الاجتماعية..! ورهن إطلاق سراحهم بتسليم المناضلين أنفسهم لأجهزة القمع، من إطلاق سراح النساء والأطفال أحياناً! كان الجميع مشدودين إلى معرفة مصير المطلوب الأول للأجهزة الأمنية “أبو المجد”.
وتمكن الحزب من تجنيب العديد من الرفاق الاعتقال، وتضاعفت أعداد المناضلين والمناضلات الملاحقين، وجرى نقل معظمهم إلى دمشق، وتجاوز عددهم الأربعين، واضطروا إلى العمل لتأمين مستلزمات العيش ودعم العمل الحزبي. وكان للتخفي آثار نفسيةٌ بالغة على العديد من المناضلين المتخفين، وخصوصاً أولئك الذين جرى اعتقال أفراد من أسرهم كرهائن! وعمل الرفيق عبد العزيز على تأمين العمل للعديد منهم.
كان الدكتور عبد العزيز الخير حريصاً على لقاء الرفاق المتخفين حيث كان بهدوئه يستمع إليهم حتى النهاية وبكلماته البسيطة والمليئة بالأمل يقدم خبرته ويكشف لهم القدرة على الاستمرار طويلاً وإمكانية تجنب الاعتقال والعيش بشكلٍ شبه طبيعي في حال مراعاة قواعد شروط التخفي والعمل الجديدة. وكان يسعى إلى أن يعيش الرفاق حياةً طبيعيةً بأكبر قدرٍ ممكن، وكان يعمل كصمام أمانٍ، وهو الرفيق المنضبط تنظيمياً الذي استطاع أن يتفادى الاعتقال أكثر من عقد من السنين. واشتهر بالعديد من الأسماء الحركية منها “مجيد” و”أبو أحمد” و”الختيار”.
كان اللقاء الأول مع الرفيق عبد العزيز “أبو المجد”، عام 1988، بعد استشهاد شقيقي الرفيق الطبيب “يوسف” الذي كان يعرفه، وأخذت تتكرر لقاءاتنا مرتين في الشهر، وكان معظمها في الشارع غالباً، مشياً على الأقدام، وقلما جلسنا في مقهى أو حديقة! حتى عندما كنا نلتقي في بيت الـ 86، وأنام فيه أحياناً، مع بعض الرفاق المتخفين كـ مازن شمسين وصادر شريقي، وبهجت كان الانضباط التنظيمي حاضراً والتواضع والمشاركة في كل أعمال الحياة اليومية.
يبرز جلياً الوجه الإنساني الرقيق للرفيق “أبو المجد” لكل من عرفه وعمل معه. عندما تعرض الرفيق صادر وهو المهندس المتخفي، أواخر عام 1989 لحادث حيث ارتطمت دراجته أمام باب سجن المزة بحاوية القمامة، وهو في طريقه إلى العمل في “بلدية دمشق” لتنظيف القمامة في شوارعها وعيناه على نظافة بلاده! وتعرض لجروح عدة، عاد إلى البيت فتح له مازن الباب ثم عاد مع “أبو المجد” الذي يحمل حقيبة الإسعافات الأولية معه وباشر في تنظيف الجروح وتضمديها، وعندما بدأنا بلومه، التفت أبو المجد إلينا قائلاً “لا داع لكل هذا الكلام” ولأن أحد الجروح كان عميقاً، أرسله إلى مشفى المواساة لتقطيبه. وتابع “أبو المجد” وضع الرفيق صادر حتى فك القطب والشفاء التام. وهو الذي درس الطب البشري ومارس المهنة كطبيبٍ لمدة خمسة أعوامٍ إلى أن تمت ملاحقته بعد مؤتمر الحزب الأول الذي نال أعلى الاصوات والثقة بين المؤتمرين وأصبح عضواً في مكتبه السياسي تاريخ اعتقاله الأخير!.
رغم انكشافي أمامه بعد استشهاد شقيقي الرفيق الطبيب “يوسف” الذي كان يعرفه. لم أصارحه بمعرفتي به حتى اضطررنا إلى الاجتماع في منزلٍ في “دف الشوك”، قرب ساقية النهر، كنت قد استأجرته من مساعدٍ في «سرايا الدفاع»، ليستخدمه الرفيق «مازن». في كل لقاءاتنا السابقة، لم يكن الحديث صريحاً بأنني أعرفه، ولكنني قررت أن أخبره بأن أصحاب البيت الذي نقصده هم من «القرداحة» توقف “أبو المجد” ونظر إليّ قائلاً: «يعرفوني بالاسم بس ما يعرفوني بالشكل!»
حضر اللقاء الرفيق “بهجت شعبو”، وعرض «أبو ماريا» الوضع التنظيمي، الخيوط، العدد والمشاكل التي تعاني منها المنطقة الوسطى. وقدم «أبو المجد»، صورةً عن الوضع السياسي والحزبي العام، وفي نهاية اللقاء، قالا: إذا لم تكن جاهزاً للسفر إلى حمص، تستطيع السفر إلى بيروت، وربما إلى أوربا بعدها!.
كانت لقاءاتنا الدورية، تتكرر مرتين في الشهر، يتابع الوضع الحزبي، الذي كان همه الرئيس، ويحضر لقاءاتنا في نقاش الكتب الثقافية حيث أشرف على تشكيل هيئة الردود على الدراسات والبرنامج الثقافي ومتابعتها حتى اعتقاله، التي كانت تضم الرفاق محمد الخطيب وعبد الله فاضل الذين اعتقلوا في حملته أوائل شباط 1992 وأنا وتهامة معروف اعتقلنا في نهاية العام في 30/11/1992.
تخفى “أبو المجد” أكثر من أحد عشر عاماً عن أعين أجهزة الأمن السورية التي شنت العديد من حملات القمع وركزت على اعتقاله، لم توفر دائرته الاجتماعية من إخوةٍ وأقارب وأصدقاء، واعتقل شقيقه الأستاذ الجامعي والنقابي هارون، وشقيقته ندى واعتدي بالضرب على شقيقته الأستاذة الجامعية “سلمى”، واعتقلت زوجته المدرسة “منى صقر الأحمد”، عندما كان ابنهما مجد في الشهر السابع آنذاك كـ “رهينةٍ” لأكثر من أربع سنواتٍ (آب 1987 – كانون أول 1991). قبل اعتقاله في 1/2/1992. عندما تمكن الضابط عبد الكريم عباس، المفرغ لاعتقاله بعد سنواتٍ من المتابعة، وأخذ ضباط فرع فلسطين يطلقون النار ابتهاجاً بإلقاء القبض على “المجرم” عبد العزيز الخيّر ورفاقه الأربعة!.
تم تحويل عبد العزيز مع رفاقه إلى محكمة أمن الدولة العليا سيئة الذكر والصيت، لكنها أصدرت بحقه العقوبة الأقسى، السجن المؤبد، متهمة إياه بعرقلة التطبيق الاشتراكي بالإضافة إلى الانتماء إلى جمعيةٍ سريةٍ ومناهضة أهداف الثورة!.
أربعة عشر عاماً قضاها في سجن صيدنايا العسكري، عاد فيها المناضل الطبيب إلى ممارسة مهنة الطب بأقصى ما يستطيع، وسنوات التخفي والسجن تشهد على ذلك.
في نهاية التسعينيات كثرت حالات الوفاة داخل السجن، كان قرار السلطة، تخفيف الضغط على السجناء. حينها صار لعبد العزيز عيادة ميدانية في أحد المهاجع، وصارت أكثر إرهاقاً من أي طبيبٍ ملتزمٍ بدوامه. كان المرضى بحاجة لعبد العزيز ليس فقط لكونهم مرضى، بل لأنهم بحاجة لرفع المعنويات وزرع الثقة في دواخلهم. كانت زيارة عبد العزيز تحقق لهم ما هم بحاجة إليه جسدياً ومعنوياً.
لم يتأخر الرفيق بعد نيل حريته في 2/11/2005 من معاودة النشاط السياسي في حزبه، والمساهمة في تشكيل تجمع القوى اليسارية الماركسية “تيم” وفي “إعلان دمشق” في مرحلته الأولى.
وعندما انطلقت ثورة الشعب السوري في الحرية والكرامة عام 2011، انخرط الرفيق في الثورة بكامل إمكاناته من أجل نجاحها والحفاظ على سلميتها وحذر من الانجرار إلى العسكرة التي اتهمها بها وأرادها النظام لها. وعبارته الشهيرة “إن أي استخدامٍ للسلاح يخرب الثورة!”.
لعب الرفيق عبد العزيز الخير، دوراً بارزاً وفاعلاً في تأسيس هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي، فكرياً وسياسياً حيث أصدرت الوثيقة التأسيسية لها في 30/6/2011، كمشروع لتوحيد المعارضة الديمقراطية من أجل التغيير الوطني الديمقراطي. وعقدت الهيئة مجلسها الوطني الأول في دمشق، الحلبون، في 17/9/2011، بلاءاتها الثلاث التي تشكل مبادئ أساسية للثورة الديمقراطية. وتحمّل “أبو المجد” بصبرٍ كل الإساءات المخجلة التي تعرض لها من انتهازيي المعارضة السورية البائسة، وحافظ على هدوئه ورباطة جأشه كرمزٍ للمناضلِين الشجعان، حتى اعتقاله وتغييبه القسري، وهو الذي كان يقول دائماً: “لا تجعلوا كرهكم للنظام أكبر من حبكم لسوريا”.
وكنت تقول إن العنف والعسكرة قد جعل الغالبية الساحقة من أوراق الوضع السياسي بيد الخارج وتحديداً الأمريكان والروس، وإن مستقبل بلادنا وشعبنا بات إلى حدٍ بعيد أوراقاً على طاولة لعبة الأمم وبات السوريون أقل تحكماً بمصيرهم وأقل فعالية. ولأن بوصلتك الوطنية واضحةٌ ومنهجك الفكري والسياسي المتماسك وخيارك النهائي في صف الشعب والثورة ومواجهة الاستبداد والعدو الوطني والثورة المضادة. لذلك كله ولأنك المناضل الشجاع الذي يقرن القول بالفعل والمجرب لعقودٍ ونظراً لدورك الوطني البارز، وبروزك كشخصية وطنية جامعة وتوافقية بين مختلف القوى السورية. اختطفت مع رفيقيك إياس عياش وماهر الطحان، بعد خروجكم من المطار في 20/9/2012، قبيل انعقاد مؤتمر الإنقاذ الوطني في دمشق، الذي أعد له الرفيق عبد العزيز في 23/9/2012، وطرح دون لبس ولا مواربة إسقاط النظام بجميع رموزه ومرتكزاته!.
مازال مصير المناضل عبد العزيز مجهولاً ورفيقيه، ومصير العشرات من المناضلين السوريين منهم الذين غيبهم القمع والاستبداد فأنكم ما تزالون معنا وعيوننا شاخصة نحوكم نحو حريتكم وكرامتنا. على أمل أن نراكم احراراً طلقاء في سوريا حرةً ديمقراطية ينال فيها شعبنا كامل حقوقه دون انتقاصٍ أو استثناءاتٍ تنسف مبدأ المواطنة المتساوية وحقنا في الحرية والكرامة والمساواة. وإن مصيرك يا رفيق يختصر مصير سوريا الذي لن يكتب له الخلاص إلا بخروجكم للحرية أنت وآلاف المعتقلين والقضاء على الاستبداد السياسي والديني وكل أشكاله نحو وطنٍ حرٍ ومستقلٍ