fbpx

ضرورة تجاوز الجدل حول ثنائية الريف والمدينة

0 168

كانت حياة الاستقرار، المتمثلة بالزراعة وتدجين الحيوانات والمهن ذات الصلة، تحولاً تاريخياً في حياة البشر والخطوة الأهم لهجر حياة التنقل والبداوة، ما مكنهم من بناء التجمعات الكبيرة، والتي تطورت لاحقاً من قرى صغيرة إلى مدنٍ آهلة ومتنوعة المهن والخدمات. خلال هذه العملية، تطورت العلاقات الاجتماعية المحدودة في زمن البداوة إلى علاقات متنوعة وغنية لتلائم حياة الاستقرار. لكن التحول من ثقافة البداوة إلى الثقافة المرتبطة بالزراعة، ومن هذه الأخيرة إلى ثقافة المدينة، لا يجري بهذه البساطة وعلى نحوٍ ثابت، ويحصل الخلل عند حدوث هجرات بدوية واسعة إلى الريف أو من الريف إلى المدينة خلال فترة محدودة، فتعجز العلاقات الاجتماعية المرتبطة بهذه التحولات عن التطور بالوتيرة المطلوبة.      

وإذا كان موضوع الريف والمدينة بتشعباته الكثيرة من القضايا المهمة في حياة المجتمعات البشرية، فهو في سورية مسألة إشكالية على نحوٍ خاص؛ لاعتبارات تتعلق بإعاقة عملية التمدن، التي لم تتوفر لها شروط الاستمرار نتيجة غياب الديمقراطية وعدم انصهار الجميع في عملية المواطنة المستندة على حكم القانون واستقلاله، فلم يكن بالإمكان استثمار التمدن كما يجب في بناء الحياة السياسية والاجتماعية وارتقائها. 

تتميز الثقافة الإقطاعية الريفية بفوقيتها واستعلائها بالمقارنة مع الثقافة البرجوازية المدينية، التي تتعامل مع الآخر من باب المصلحة، وإن عدم تبلور وانتشار الثقافة الأخيرة، كثقافة اجتماعية على نطاق واسع، حال دون حسم الجدال في قضايا كان يمكن أن تصبح بمثابة ذكرى من الماضي، كما في الجدل حول ثنائية الريف/المدينة. إذ يتوقف إنتاج المدينة للثقافة المدينية على درجة التطور الرأسمالي، بدون ذلك ليست المدينة سوى تجمع حرفي لخدمة الريف الاقطاعي وإنتاج وسائل استمراره ونشر ثقافته، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي وطبقته البرجوازية هما اللذان يحركان عجلة تحول المدينة الإقطاعية إلى مدينة رأسمالية قادرة على إنتاج التمدُّن ونشره بما يتوافق مع حدود أسواقها وانتشار سلعها، لتشمل الريف وتتمدد على حساب علاقاته الاجتماعية الإقطاعية. 

لم تتطور الطبقة البرجوازية السورية بما يكفي لإحداث نقلة مهمة في الثقافة المدينية، كانعكاس لضعف عملية التطور الرأسمالية، علاوة على كونها، بصورة عامة، خرجت من رحم الطبقة الإقطاعية ولم تكن نقيضها، فكان ما حملته عند خروجها خارج أسوار الحارات الشعبية للمدينة القديمة عبئاً وقيداً، ولم تستطع إحداث الخرق المطلوب كثقافة متجاوزة لثقافة الماضي، لا بل إنها تعايشت مع الثقافة الإقطاعية وتواطأت معها. ينطبق ذلك حتى على ثقافة مدينتي دمشق وحلب، كأبرز حاضرتين سوريتين.   

تركت الحالة البينية للطبقة البرجوازية ثغرة واسعة ليتسرب منها نفوذ قوى ريفية صاعدة، أخذت على عاتقها لاحقاً مهمة تمدين الريف على طريقتها الفوقية، وهذا ما ولّد الكثير من الأزمات والمشاكل التي ما نزال نعاني منها حتى الآن. من جهة ثانية، حال الاستبداد الذي حمله الريفيون على راحاتهم دون ظهور بدائل اقتصادية قادرة على الحياة، فهيمنت منظومة الاقتصاد الريعي/المافيوي، ليس كبنية اقتصادية فحسب، إنما كثقافة هجينة تم نشرها بعناية لتدمير القيم الاجتماعية، ومنها قيمة العمل ودور الكفاءة كمصدر للثروة والرخاء.

وبصورة ما، برز في عهد البعث نوع من الشعور الانتقامي لسكان الأرياف تجاه المدن، كردّ على التعامل الاستعلائي لقاطنيها، وخاصة بعد أن لمسوا نتائج إجراءات الإصلاح الزراعي والتصنيع على حيواتهم، مع أن ذلك لم يستمر طويلاً، ولم تلبث البطالة وعدم توفر فرص العمل واحتياجات السلطة العسكرية/الأمنية والكثافة السكانية في الريف، لم تلبث أن دفعت بالمزيد من موجات الهجرة إلى ضواحي المدن الكبيرة، فكانت العشوائيات من الضخامة والفوضى بحيث قامت بخنق المدينة، وظهرت كتجمعات ريفية اجترت ثقافتها السابقة ولم تكتسب ثقافة المدينة المفترضة، تلك الثقافة التي لم تتطور كما يجب في إطار علاقات الاقتصاد الخدمي والريعي والفساد المرتبط به. 

ومع أن الاتجاه الكلاسيكي في التطور من الثقافة الإقطاعية إلى الثقافة البرجوازية قد استمر حتى أواخر القرن العشرين، فإن التعقيد الذي رافق زمن العولمة والاتصالات جعل من الصعب وضع فروق حادة بين الريف والمدينة، فلم يعد الريف يعني العزلة، مثلما لم تعد المدينة تحتكر سرعة تبادل المعلومات، ويمكن الحديث عن الفرق بينهما فقط في ما يتعلق بدرجة التلوث البيئي، وشمل ذلك بلدان العالم كافة، ومنها سورية، إلى هذه الدرجة أو تلك، ولم يلبث أن ترافق بتحول جزء متزايد من الأنشطة البشرية إلى المجال الافتراضي، وبخاصة بعد أزمة فيروس كوفيد 19. 

وهكذا، لم يعد الحديث عن حدود واضحة في سورية بين الريف والمدينة وثقافتيهما مجدياً ولا واقعياً، وقد تجاوزت الحال إرث الصراع التاريخي المديد بين الريف وعهد البداوة من جهة وبين الريف والمدينة من جهة أخرى. الأهم من كل ما سبق هو إمكانية تجاوز مثل هذا الإرث من خلال التفكير ببناء الدولة الحديثة، القائمة على صيغة سياسية تتضمن المساواة في المواطنة والتكامل في إنجاز الأدوار بين مختلف الأفراد والشرائح الاجتماعية، عوضاً عن اجترار مثل هذه الثنائيات الخاطئة معرفياً وإنسانياً، وضرورة رفض أي تمييز بين فردٍ وآخر على أساس مكان إقامته أو جنسه أو انتمائه.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني