fbpx

شرق الفرات ومستقبل سورية

0 228

يحيط الغموض بمستقبل سورية الدولة والجغرافيا لدرجة يصعب معها التكهن بمسار الأوضاع والاتفاقيات حولها، وهو ما نستشفه من الأخبار القادمة أو المرتبطة بمصير شرق الفرات. فمن ناحية تتكاثر قواعد قوى الاحتلال الخارجية في المنطقة، كما تتوارد الأنباء عن مصير الحوار الكردي/الكردي، وتتصاعد التسريبات عن بعض التفاهمات السياسية بين جزء من القوى الممثلة لأكراد سورية وبعض قوى الاحتلال. حتى باتت الأنباء والتسريبات متاهة سياسية تصعب معرفة بدايتها ونهايتها، وأهدافها المتعلقة بواحدة من أهم مناطق سورية، وبمصير سورية إجمالاً، لاسيما إن تم النظر إليها كمقدمات لحل سياسي وشيك.

لكن ومن الناحية الأخرى قد نتمكن من فهم أو استنتاج بعض المؤشرات والدلالات إن نجحنا في عدم حشر التطورات في خانة وحيدة وواحدة، تتمثل بأنها خطوات ضرورية نحو فرض حل سياسي مستدام في سورية. حيث تعبر الكثير من هذه التطورات عن مسارعة الأطراف المحتلة لتثبيت أقدامها في هذه المنطقة، بغرض ضمان مصالحها المستقبلية في سورية أولاً، ونتيجة فقدان الثقة بباقي القوى المحتلة من جهة ثانية، وبحكم أهمية المنطقة الاقتصادية والجيوسياسية على مستقبل سورية وربما مستقبل المنطقة. فإلى جانب موارد المنطقة الاقتصادية الزراعية والنفطية، وأهميتها لمجمل الناتج القومي السوري، ولتأمين احتياجات السوريين الغذائية الرئيسية كالقمح، يلعب نسيج المنطقة المجتمعي المتنوع (عرب؛ كرد؛ تركمان؛ آشوريين؛ سريان؛ شركس؛ أرمن)؛ ولاسيما مكوناه الكردي والعربي؛ دوراً حاسماً في تحديد مصير الدولة والجغرافية السورية، كما يمتلك القدرة على دفع كامل المنطقة نحو الاستقرار المجتمعي، أو نحو نقيضه تماماً.

لذلك يبدو أن الاهتمام الدولي في هذه المنطقة تحديداً، ذو دلالات ومؤشرات بينة على طبيعة العلاقات والتفاهمات الدولية الهشة تجاه شرق الفرات وسورية وربما تجاه مجمل المحيط الإقليمي، وهو ما يتوافق مع الأجواء المتوترة إقليمياً على أكثر من صعيد وفي أكثر من قضية، الأمر الذي يدفعنا نحو قراءة هذه الأحداث والتطورات على اعتبارها شكلاً من أشكال الصراع الدولي غير المباشر عليها ومنها. فمثلاً نجد إصراراً أمريكياً على دفع الحوار الكردي/الكردي خطوات إلى الأمام، رغم ضبابية الرؤية الأمريكية تجاه خواتيمه، التي تبدو عاجزة عن إيجاد توليفة سياسية؛ أمنية؛ عسكرية؛ كردية/كردية تشاركية، مستقرة من ناحية ومضمونة النتائج من ناحية ثانية. ومع ذلك تصر الإدارة الأمريكية على مواصلة هذه الحوارات ومحاولة تقريب وجهات النظر، خدمة لمصالح أمريكا الاستراتيجية العليا، إذ تتجنب الإدارات الأمريكية الأخيرة من أوباما إلى ترامب وغالباً إلى الإدارة القادمة بعد انتخابات نوفمبر، أي انخراط مباشر ميداني في قضايا المنطقة العربية، في مقابل حرصها على ضمان التحكم البعيد نسبياً في مسار التطورات والمخرجات، لذا فهي تحرص على تثبيت أقدام حلفائها الموثوقين تماماً كما تحرص على تحصينهم من أي اختراق دولي قد يهدد المصالح الأمريكية.

فعلى الرغم من قوة العلاقة الأمريكية/الكردية؛ ولاسيما العلاقة مع قوات سورية الديمقراطية “قسد”، إلا أنها لم تحل دون تقدم تفاهمات الأخيرة مع نظام الأسد من ناحية ومع الجانب الروسي من ناحية ثانية أكثر أهمية، وربما أكثر خطورة، نتيجة عوامل عديدة، منها محورية الدور الروسي في سورية، وتنامي التهديدات التركية العدائية تجاه قسد بصورة يومية، وبالتأكيد نتيجة الانكفاء الأمريكي. كما لم تنجح أمريكا في تجاوز المسائل التي تمثل تهديداً للأمن القومي التركي، على الرغم من العلاقة الأمريكية مع كل من تركيا من ناحية، ومع قسد من ناحية ثانية. وهو ما أدى إلى اندلاع مواجهات عسكرية مباشرة وغير مباشرة بين كل من الأتراك وقوات قسد بشكل دوري ومتكرر، ما يهدد استقرار المنطقة من ناحية، ويفسح المجال أمام تدخل روسي مباشر أو غير مباشر.

من هنا نجد أن الحوار الكردي/الكردي الجاري برغبة أمريكية واضحة، والهادف إلى تشكيل مرجعية سياسية كردية واحدة تدير منطقة شرقي الفرات بشكل جماعي، بعد استفراد قوات سورية الديمقراطية (قسد) بإدارتها في المرحلة السابقة، بمثابة مناورة سياسية تغلق الباب أمام التوغلات الروسية والأسدية من جهة، نتيجة مشاركة أحزاب وقوى كردية معارضة للنظام وبعيدة كل البعد عن التوافق مع روسيا ولو آنياً، وذات علاقات متينة أو مقبولة مع الأتراك، الأمر الذي يلجم المخاوف التركية نتيجة ضبط مطامح قسد من خلال مشاركة القوى الكردية المقربة من تركيا. لكن نجاح هذه المبادرة أو المناورة الأمريكية وديمومتها مستقبلاً مرهون بشرطين اثنين، يستحيل دون أي منهما تجاوز الصراعات والانقسامات في هذه المنطقة السورية الهامة.

يتمثل الأول في تضمين المبادرة بعداً وطنياً جامعاً، عبر دعوة سكان وأهالي المنطقة ممثلين بقواهم التنظيمية والسياسية إلى المشاركة في إدارة المنطقة، دون أي تمييز عرقي أو إثني أو طائفي بين أي منهم، وعلى قاعدة احترام وصيانة الحقوق الثقافية والدينية لكامل مكونات المنطقة، وبما يضمن جميع الحقوق السياسية الفردية والجماعية والفئوية. في حين يعبر الشرط الثاني عن ضرورة تمتع الجسم الإداري المأمول الاتفاق عليه مستقبلاً، بسيطرة عسكرية وأمنية وسياسية كاملة وشاملة على مجمل المنطقة، وهو ما يضمن خضوع جميع القوى والمليشيات العسكرية الحالية بما فيها قوات قسد، لسيطرة وإدارة وتوجيه مركزي واحد. فلن تستقر المنطقة في ظل تعدد وتضارب المرجعيات العسكرية، وتعدد أهدافها وتوجهاتها، بل على العكس تماماً سوف يأخذنا هذا المسار الفوضوي نحو مزيد من المواجهة والصدام سواء عاجلاً أم آجلاً.

في النهاية من شبه المستحيل أو ربما من المستحيل على الإدارة الأمريكية رعاية حوار وطني سوري/سوري جامع، على قاعدة المواطنة الكاملة والمتساوية، التي تتجاوز انتماءات دون الوطنية، كما يصعب على القوى المحتلة للأراضي السورية اليوم المبادرة بمثل هذه الطرح، وهو ما يتجسد اليوم في أكثر من مثال، قد يكون آخرها محاولة تشكيل ائتلاف في منطقة شرق الفرات يضم المجلس الوطني الكردي، تيار الغد السوري، والمنظمة الآشورية، والمجلس العربي للجزيرة والفرات، والذي يبدو حتى الآن بأنه محاولة جديدة لتقسيم السوريين وفق انتماءات دون وطنية مرة أخرى، وبما يضمن سيطرة وتحكم قوى الاحتلال المتعددة بمستقبلنا ومستقبل سورية، تحت شعار توحيدي خادع.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني