fbpx

سيمفونية الرحيل

0 338

بقلب مجروح، وحيرة مبعثرة استقبل شيروان صباحه المغترب بلون الغروب، وأبجدية المجهول ترسم في مخيلته توقعات مخيفة، تفكيره مبعثر في أزقة كاحلة من براثن حلمه الذي ألم بقلبه وشل تفكيره.

مضى إلى محله لبيع الألبسة في مركز السوق في مدينة قامشلو “القامشلي” تاركاً روحه في حضن ابنته هيوا النائمة وقد طبع ابتسامتها بقبلاته المرتعشة، ولم يأخذ معه سوى قلقه وأجزاء مبعثرة من حلمه.

بدأ يقص لصديقه فرهاد عن حلمه وأنفاسه التائهة، وكيف أنه استيقظ من نومه على صوت بكائه العميق، حيث رأى في حلمه وكأن ابنته هيوا، حبيبة قلبه تودعه وهو يركض وراءها، يحاول أن يمسك بيدها، لكنها تبتعد أكثر فأكثر وهو يبكي بحرقة وألم مع أنفاسه المختنقة، حتى تلاشت صورة ابنته من أمام عينيه كالسراب، ومن شدة بكائه استيقظ من نومه.

ركض إلى ابنته يتلمّسها ويحضنها بشدة، ليتأكد أنه كان كابوساً.

حتى الآن قلبي مليء بأشياء لا أعرفها وتضغط على أنفاسي الخائفة وتبعثر كياني، قالها لصديقه مبتسماً وهو يتذكر حديثها الجميل وكلماتها الأنيقة.

أتعرف ماذا طلبت مني قبل أن تنام؟؟

طلبت أن أجلب لها ولدميتها فستاناً أبيض كالعروس، تحب دميتها كثيراً لا تنام إلا وهي في حضنها، تحكي لها مغامراتها وسيرتها الذاتية، والمضحك بأنها تناديها ابنتي.

ابتسامة الألم تلك لم تستطع أن تخفي بريق الحزن في عينيه ولا نبرات الألم في أنفاسه.

ليعود ثانية يعانق أنين الصمت ويحاول تركيب حروفه وإعادة التوازن إلى روحه التائهة. وهو لا يزال غارقاً في تفاصيل حلمه يفك رموزه، يبحث عن وميض أمل يهدّئ به نبضاته الهائجة، وإذا بصوت انفجار قوي يهز كيانه ويقتلعه من جذوره لينطق باسم هيوا حصيلة تفكيره وقلقه العميق، لم يتذكر سواها وصدى ضحكتها تتجدد في أسماعه وصورتها لا تفارق عينيه.

ركض بلا وعي، هو نفسه لا يعرف أين توجّهه دقات قلبه المتسارعة، لتنتهي به خطواته التائهة إلى حيث الانفجار الإرهابي في حارته، حارة الغربي في مدينته قامشلو، في بيته، في روحه.

كانت الأنقاض متراكمة هنا وهناك، دماء تسيل، أشلاء متناثرة، مشهد مرعب لا مثيل له، تراءت له قامشلو مدينة هامدة في متاهات ما قبل التاريخ.

تجمّد في مكانه لبعض الوقت يعيد تركيب نفسه ويجمع أنفاسه المبعثرة، ونظراته التائهة من هول ما يراه.

رأى بيته قد وقع بملامحه ساحقاً بذلك كل ما ينبض بداخله من أنفاس وأحلام.

عشرات البيوت المتهدمة، بيوت جيرانه، أصدقائه، أهله.

تجمّدت الحياة في عروقه لم يقوَ على الوقوف، فمضى راكعاً يبحث عن أنفاس قد تكون على قيد الحياة، يئن تارة وأخرى يبكي، يبحث في كل اتجاه، يحفر وينبش بأصابع مدماة تحت بقايا الأنقاض الجارحة التي لن تكون رحيمة على أرواح بريئة وابتسامات يانعة.

يدور حول نفسه وحول الأنقاض يتكلم بشكل هذيانٍ غير مفهوم، فقد توازنه واتزانه.

تراءت أمام عينيه صورة هيوا في حلمه وهي تبتعد عنه وتختفي كالسراب، فصرخ باسمها.. لتردد السماء صدى قلبه المجروح، وكأن اسمها يمده بقوى خارقة يجدد بها البحث عن ملامح الحياة في وجوه سحقتها الأنقاض ودموعه تغسل وجهه بكآبة الخوف.

وبعد بحث طويل وكئيب وجد زوجته غارقة بجروحها والدماء ترسم على وجهها خارطة المأساة والزمن البائس.

تم نقلها إلى المشفى وهي تنادي باسم ابنتها بالرغم من جروحها الكثيرة التي سترسم على وجهها لوحتها الناقصة.

لكن روحه لم تهدأ برؤية زوجته على قيد الحياة، فابنته لا تزال تحت الأنقاض. أصعب اللحظات وأكثرها مأساة تلك التي تقتحم حياته وترسم على جبينه تجاعيد الرحيل الأبدي.

لم يمل من البحث ولم يفقد الأمل ولكن قساوة حلمه وإعادته لتفاصيلها أنهكت قواه.

فجأة، توقف عن البحث وحدَّقت عيناه الدامعتان على أفظع ما رأته، تعجز كل الأبجديات عن وصفه، رأى ابنته وهي تحضن دميتها والغبار قد غطّى بكآبته ملامحها الناعمة ولا تزال ابتسامتها مشرقة كما تعوَّد أن تستقبله بها.

حملها بين يديه، وحضنها ليحس بأنفاسها، لكنها كانت جثة هامدة بابتسامة بريئة لوثها الغبار.

صرخ الأب صرخةً زلزلت الأرض، وتخطّت حدود السماء، أقوى من تلك التي في حلمه، كم تمنى أن يكون الأمر حلماً وتكون ابنته نائمة يداعب خصلات شعرها يضمها إلى أنفاسه، يداعب نفحات الحياة على جدائلها، يرسم على وجهها أشواقه.

حضنها بقوة، تنفس من عبق رائحتها، قبلها كثيراً ثم سقط غائباً عن الوعي وابنته ودميتها في حضنه.

مرت ستة أشهر، وشيروان لا يزال يزور قبر هيوا، يحضن ترابها ويتنفس رائحة ذكرياتها، وضحكتها لا تزال ترسم في حياته بقايا أمل يعيش بها الباقيات من أيامه الكئيبة.

زرع على قبرها نرجسة تشبهها لتندى بعبق الأشواق وتنشد لها تراتيل الصباحات الغائبة كلَّما هبت عليها نسمات الذكريات.

 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني