سوريا من الشعور الأقلّوي والمظلوميات إلى الهوية الوطنية
في مواجهة انتفاضة الشعب السوري تبنى نظام بشار الأسد خطاباً قائماً على استراتيجيتين هما: التخوين والتخويف. فمنذ التصريح الأول له على أحداث درعا في 24/3/2011 اتهم الأسد وبلسان مستشارته بثينة شعبان المنتفضين بالخيانة والعمالة لأطراف خارجية تسعى للنيل من “السيادة الوطنية” وإشاعة الفوضى، هذا بالإضافة إلى اتهامهم بالطائفية والتطرف الديني والسعي لتقويض “الوحدة الوطنية” بين مكونات الشعب السوري واستهداف الأقليات. إنه بمجرد حديث نظام الأسد عن طوائف دينية كأقليات يعني أنه بالنسبةِ له هناك طائفة دينية تُشكل أكثرية، ويعني أيضاً أنه عاجز تماماً عن التعامل مع السوريين كشعب واحد وليس كمجموعات طوائف وأعراق ومناطق.
– الشعور الأقلّوي والهوية الوطنية
في المجتمع السوري، المعقّد الهوية دينياً ومذهبياً، ما لا يقل عن 17 طائفة مسلمة ومسيحية تتوزع بين أكثرية سُنية بنسبة تتراوح بين 60 و73% وأقليات (علوية، مسيحية، درزية، إسماعيلية، شيعية ونحو ذلك) تتراوح ما بين 30 و40%، هذه النسب تختلف من مرجع إلى آخر وتخضع في كثير من الأحيان إلى اعتبارات سياسية وإيديولوجية، كما أنها تتقاطع مع العوامل الإثنية والثقافية المتنوّعة أيضًا في سوريا: العرب، والأكراد، والأرمن، والشركس، والتركمان، والآشوريين،…
المشكلة في سوريا ليست أبداً في وجود تنوّع طائفي أو إثني ثقافي فيها، وليس في رغبة الأقليات بالتمايز والحفاظ على هويتها، فهذا هو الطابع التاريخي والمنطقي لوجود كل أقليّة اجتماعية وإلا فقدت وجودها. في الأنظمة الديمقراطية، يُعتبر التنوع الطائفي والإثني مصدر غنىً وتفاعل ثقافي وحضاري وفكري وإرثاً تحاول الدولة الحفاظ عليه. وفي الوقت نفسه، يتجاوز الأفراد في هذه الأنظمة الديمقراطية حدود انتماءاتهم الضيقة ما قبل الوطنية (طائفية، عشائرية، إثنية… إلخ) إلى بناء مجتمع دولة المواطنة الذي يصبح هو انتماءهم الأول. أما في الأنظمة الشمولية بشكل عام، كما في سوريا على سبيل المثال لا الحصر، تتحول الأقليات إلى محرمات يُمنع الحديث عنها وتكبت في اللاشعور القومي كي لا تخرج إلى الوعي إلا وفق المنظور الإيديولوجي لهذا النظام الشمولي الحاكم. بالنتيجة، يتبلور هذا التنوع الطائفي والإثني المكبوت في صيغة “شعور أقلوي” مزمن كردة فعل عصابيّة على إحساس دائم بالخطر والزوال أمام خطاب شمولي مسيطر على الجو العام السياسي والاجتماعي السائد.
يسيطر هذا الشعور على الأقليات ويُشكل لهم هاجساً يومياً وإحساساً دائماً بالتهديد، وخوفاً عميقاً يصل حد الفوبيا من الأكثرية السنية ومن عودتها إلى الذاتية الاسلامية الموسومة دائما في اللاشعور الجمعي بالسلفية والتطرف. إنّ أي ملاحظة موضوعية للمناطق التي ثارت في سوريا ولمواقف المؤيدين لنظام الأسد من الأقليات، ستقودنا إلى استنتاج أن هذه الأقليات كانت حبيسة أحكام مسبقة وكانت ردود أفعالها على الثورة طائفية تعكس تفوّق الالتزام بمصالحها الدينية أو الاجتماعية على مصالحها الطبقية أو الوطنية . وهذا ما يفسر لنا ردود فعلها المعادي للثورة بشكل عام و “جهوزيتها” للتجاوب السريع مع خطاب النظام الطائفي وتقوقعها على ذاتها ورفضها للحوار وتماهيها مع سلطته ، ليس دفاعاً عن النظام وحباً به أو بسبب مكاسب سياسية واقتصادية قد حققها لها (فهذا النظام لم يكن يوماً نظاماً للطائفة العلوية أو المسيحية أو الدرزية أو الاسماعيلية)، وإنما خوفاً من البديل الإسلامي.
هناك قناعة لدى قسم كبير من أبناء الأقليات بأن البديل الوحيد عن نظام الأسد هم الإسلاميون التكفيريون. هذه المعادلة التي ما فتئ نظام الأسد الأب والابن يلوّح بها “إما أنا أو الإسلاميين”. ولتحقيق هذه المعادلة، لم يتوان يوماً عن قمع التوجهات الفكرية ذات الطابع العلماني، ومنع الحياة السياسية الحزبية والنقابية وزجّ اليساريين في السجون وقمع الحركات اليسارية الثورية بشكل عام قمعاً وصل حدّ التصفية الجسدية في الوقت الذي كان يغضّ فيه الطرف عن الحركات الدينية بجميع اشكالها طالما أنها لم تتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها لها، لا بل وكان أيضاً يمنحها المنابر الاعلامية ويدعمها.
– سوريا أرض المظلوميات
تُتعتبر المظلومية و”لبس ثوب الضحية” استراتيجية هوياتية يلجأ إليها معظم أفراد الجماعات المتقاتلة في النزاعات والحروب الأهلية ولهذه الاستراتيجية عدة أهداف: أولاً، الدفاع عن النفس. ثانياً، هي وسيلة لتبرير السلوك الاجرامي الانتقامي الذي تقوم به الجماعات المقاتلة على الأرض. ثالثاً، المطالبة بتعويضات وحقوق سياسية. رابعاً، عدم الاعتراف بالمسؤولية لما وصلت إليه الحالة من فوضى وإجرام. خامساً وأخيراً، وهو الأهم، عدم الاعتراف بالآخر الذي يُلبس “ثوب الجلاد”.
في كتابه “الشائعة والجريمة” يقول ميشيل روكيت (1992): الأزمات الاجتماعية لا تأتي بشيء جديد ولا تخلق شيئاً جديداً وإنما تنقل ما هو موجود في اللاشعور إلى ساحة الشعور؛ من مرحلة الثبات إلى مرحلة النشاط. وهذا ما حصل، نوعاً ما، في سوريا مع الأقليات بشكل عام ومع الطائفة العلوية بشكل خاص، حيث عادت إلى الظهور انقساماتها العصبوية العامودية لتطفو إلى السطح هويتها الطائفية من خلال العودة إلى مخزون “الذاكرة الجمعية” بوصفه ذخيرة فعّالة.
هذه الذاكرة الجمعية المحكومةً بانتماء الفرد الاجتماعي، حيث تتماهى الهويات الفردية بهوية الجماعة؛ مما يجعل ذكرياتهم الفردية وتصوراتهم عن الماضي ذات طابع مرجعي-جمعي حسب تعريف موريس هالبوكس (1950)، لها عدة وظائف، أهمها الحفاظ على هوية الجماعة وحشد أفرادها للدفاع عنها بحيث يبقى الفرد في حالة استعداد وتأهب. كما ولها أيضاً وظيفة تبريرية هدفها شرح سلوك ومواقف أفراد الجماعة. فمثلاً، كثيراَ ما برر أبناء الطائفة العلوية المؤيدين للأسد مواقفهم المعادية للثورة بالحديث عن الماضي حيث كانوا (من وجهة نظرهم هم)، مضطهدين أو مهمّشين من قبل الأكثرية السُنية: “كنا نعيش في الجبال ولا نجرؤ على النزول إلى المدينة”، “كنا نعمل خدم في البيوت”، “لم يكن لنا أي قيمة في سوريا”، “كان أبناء المدن يتعاملون معنا بفوقية”… إلخ. وعاد الحديث عن العهد المملوكي والعهد العثماني والامتهان الذي تعرضوا له خلاله وطبعاً لن ننسى في هذا السياق فتوى ابن تيمية الشهيرة التي أصبحت على كل لسان.
غالباً ما يتم استحضار الماضي المكبوت في اللاشعور الجمعي وإعادة بنائه بطريقة انتقائية تتناسب مع الموقف السلبي من الثورة في الأوساط الاجتماعية الضيقة (العائلة، الأصدقاء، المقربين) عن طريق الحوارات والنقاشات وتناقل الأخبار والشائعات والأساطير التي تحتفل بها السرديات الأقلويّة. ولكن ابتداءاً من نهاية 2012 حيث اشتد الصراع المسلح بدأ هذا “الاجترار النفسي للماضي” بالظهور إلى العلن عن طريق صفحات التواصل الاجتماعي المؤيدة للنظام.
هذه “المظلومية التاريخية” والشعور القوي بالخوف من الابادة والانتقام منهم بالإضافة إلى جهل العامة وبعض الجرائم الطائفية التي ارتُكبت باسم الثورة وإن كان مشكوك بها (كحادثة نضال الجنّود في بانياس بتاريخ 11 نيسان 2011، شعار المسيحية عبيروت والعلوية عالتابوت…) استغلتها الأجهزة الأمنية بطريقة أصبح فيها بشار الأسد “مُخلّصا إلهياً” بالنسبة إلى بعض أبناء الطائفة العلوية..
ولكن في المقابل وفي وجه وتيرة العنف المفرط الذي استخدمه نظام الأسد ضد المناطق الحاضنة للثورة وإضفاء طابع طائفي مقصودٍ عليه وتماهي الأقليات مع سلطته الاستبدادية، أو في أغلب الأحيان انغلاقها على نفسها وعدم رغبتها في المشاركة في الثورة، وتغاضي المجتمع الدولي عن جرائمه وعدم تدخله لحماية المدنيين من بطشه، تصاعد منذ بداية 2012 خطاب سُني طائفي مضاد يعتمد في جوهره على ما يمكن أن نسميه “مظلومية سنية”. هذه المظلومية المتمثلة بلبس ثوب الضحية ليست وليدة الثورة السورية فقد كان يتم الحديث عنها في الأوساط السُنية، ولو بشكل ضيّق وسري نوعاً ما، منذ أن بدأ نظام الأسد الأب في عام 1970 مشروعه في “عَلوَنة” الدولة والسيطرة على المفاصل الأساسية فيها، خاصةً المؤسستين العسكرية والأمنية، وتهميش الأغلبية السُنية سياسياً .
في الأشهر الأولى للثورة، تأثّرت بعض الأوساط الشبابية المعارضة بأفكار الشيخ السلفي عدنان العرعور وخطاباته الانفعالية المليئة بالإيحاءات الطائفية عبر قناة “صفا” وساعد ذلك في خروج هذه المظلومية إلى العلن وفي تبلور الخطاب الطائفي السني، ومع ذلك بقي هذا الخطاب خجولاً ومحصوراً في أوساط شعبية معينة ولم يكن له صدىً في الشارع الثائر حينذاك كما هو عليه الحال الآن. الأمر الذي زاد من حدّة اتساع الخطاب السني الطائفي وأعطاه مبرراً قوياً هو دخول التنظيمات الدينية الشيعية مثل حزب الله اللبناني ومقاتلين شيعة من العراق على خط المواجهة بشكل علني تحت مُسمى لواء “أبو الفضل العباس” وبإدارة إيرانية لحسم المعركة لصالح نظام الأسد.
إذا كان الخطاب الطائفي الأقلوي في جوهره يعتمد على “مظلومية تاريخية” كامنة في اللاشعور الجمعي وخوف مرضي يصل حد “الفوبيا” من السلفية التكفيرية التي هي حكرٌ على الأغلبية المسلمة السنية كما يُشيعه نظام الأسد ومثقفوه، فإن الخطاب الطائفي السُني يرتكز في الوعي الشعبي على مشاعر غضب وإحساس بالظلم وردة فعل انتقامية على قمع وبطش النظام في المناطق الحاضنة للثورة. غالباً ما يتم تفسير الظلم الكبير الذي نال هذه المناطق بعقدة الاضطهاد والتآمر: “الجميع يشارك في قتلنا، الجميع لا يريدنا، الدم السني رخيص ووحدهم أبناء السنة من يموتون، عندما يموت أحد من أبناء الأقليات الجميع يستنكر ويندد أما عندما يموت السُنة فلا أحد يهتم، لا أحد يساندنا… إلخ”. ولربما أكثر ما يُجسد هذه المظلومية هو هتاف “يا الله ما إلنا غيرك يا الله” الذي ردده الثائرون في تظاهراتهم كعلامة على تركهم وحيدين في وجه إجرام النظام.
– نحو هوية سورية وطنية
عبر خطابه وأجهزة إعلامه، قسّم نظام الأسد الشعب السوري إلى مواطنين شرفاء وخونة، وإلى أكثرية سنية متطرفة وأقليات مُستهدفة، وإلى عرب وغير عرب. هذا الخطاب والعنف الذي رافقه كانا ذات فاعلية كبيرة وزادت في الشرخ بين كل شرائح المجتمع السوري وبين الموالين والمعارضين، ودفعت إلى التّمترس خلف المواقف السياسية وإلى التعصب واللجوء إلى خطاب الكراهية، وهكذا تحوّلت ثورة شعب ضد نظام استبدادي شمولي إلى صراع بين جماعات طائفية وإثنيّة.
يقع أصحاب خطاب المظلومية بشكل عام سواء كانت مظلومية علوية أو سُنية أو كوردية ضحية آلية نفسية معروفة باسم “التحيّز التوكيدي”. وتتمثل هذه الآليّة في رؤية وتفضيل الأدلة التي تؤكد صحة اعتقاد أصحابها وعدم القدرة على إدراك المعلومات التي لا تتوافق معها. فمثلاً أصحاب المظلومية السنية لا يروا أو لا يريدون أن يروا عشرات الآلاف من المعارضين وآلاف المعتقلين وعشرات الشهداء تحت التعذيب من أبناء الأقليات. كما أنهم أيضاً لا يريدون أن يروا أن ظاهرة “التشبيح” لا تقتصر فقط على العلويين وأبناء الأقليات الأخرى وإنما تشمل أيضاً أفراداً من الطائفة السُنية. أما أصحاب المظلومية الكوردية لا يروا أو لا يريدون أن يروا الظلم الذي حل على أبناء وطنهم العرب والآشوريين وغالبا ما يقدمون أنفسهم على أنهم الوحيدين الذين عانوا من الظلم وأنه لم يتضامن معهم ومع قضيتهم أحد وبذلك ينكرون وجود الألاف من أبناء وطنهم العرب الذين كتبوا وتضامنوا ومازالوا يتضامنون مع قضيتهم. ونفس الأمر بالنسبة لأصحاب المظلومية العلوية فهم لم يروا أو لا يريدون أن يروا مئات الشعارات التي تندد بالطائفية وتؤكد على الوحدة الوطنية والتي رفعها ورددها المتظاهرون في شوارع حماه ودمشق ودرعا وإدلب وحلب ودير الزور وغيرها من المدن السورية.
الثغرة الأهم في خطاب المظلوميات، هي الخلط اللاواعي، وأحياناً واعي، بين “مفهوم الأغلبية الطائفية أو الدنية أو الإثنية” و”مفهوم الأغلبية السياسية”. فمثلاً المنادون بحكم الأكثرية السُنية ينسوا أو يتناسوا أن الأكثرية الدينة أو الثقافية والإثنية هي أكثرية اجتماعية ولا تعني أبداً أكثرية سياسية. يتجاهل أصحاب هذا الخطاب الطائفي، عن قصد أو بدونه، التعددية والتنوع في المجتمع السوري حتى داخل الأغلبية السُنية نفسها. كما يتجاهل أصحاب هذا الخطاب أن الخطر الأكبر الذي تتعرض له اليوم الأكثرية السنُية في سوريا هو ليس فقط بطش النظام وإنما أيضاً هو محاولة تحويلها إلى مجرد طائفة تنحو إلى السلوك الطائفي بعد أن كانت، تاريخياً وحتى الآن، تسلك تجاه ذاتها وتجاه الجماعات الأخرى كأمة جامعة لمختلف مكونات الشعب السوري بطوائفه وأعراقه.
أما الشعور الأقلوي فهو يؤدي إلى قلق وجودي عام ويُشكل حاجزاً نفسياً لا واعٍ يعيق تبّني هوية وطنية شاملة وإحساس بالمواطنة سابقاً للإحساس بالانتماء لأقلية طائفية أو إثنية، ويؤدي بالأفراد إلى أن يتصرفوا كجماعات متراصة في أوقات الأزمات والاضطرابات تجاه مخاوف أمنها الذاتي وقلق الضياع؛ فيُبدل الفرد هويته الشخصية بهوية الجماعة (الطائفة، القومية…) ويرد على تهديد أمنه الذاتي بتشييد نرجسية جماعية متعالية مبنية على وهم. إن غياب هذا الشعور الأقلوي هو أحد أهم الشروط الأساسية لبناء هوية وطنية لأنه يعطي الفرد إحساساً بالحرية وبأنه قادر على ملء أي فراغ يريده والمشاركة مع من يريده بدون خوف.
لا بديل لنا كسوريين عن الحفاظ على التعدديّة في سوريا والتي تعني الحفاظ على التنوع الثقافي والديني والقومي والحفاظ على سوريا، تمامًا كما أنّ الحفاظ على التعددية في الطبيعة هو من الحفاظ على التنوع البيولوجي، الذي يضمن البقاء للكائنات والنباتات والحيوانات وباقي مكونات الحياة.
يجب علينا أن نعي أنّ وحدة الدولة لا تقتضي أحاديّة الثقافة في المجتمع ولا أحادية الهوية، وأنّ التنوع لا يُفضي بالضرورة إلى تفكّك الدولة فالمشكلة لا تكمن في وجود فوارق واختلافات، بل تكمن في طريقة إدراة هذه الفوارق والاختلافات.
مساهمة الأستاذ عزام أمين في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع الأستاذ عزام أمين.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”