fbpx

سوريا بين المركزية القوية واللامركزية الموسّعة.. تفكيك المفاهيم الخاطئة في مرحلة بناء الدولة

0 60

في ظل التحولات العميقة التي تشهدها سوريا بعد سقوط النظام السابق، يبرز مفهوم “اللامركزية الإدارية الموسعة” كأحد المحاور الأساسية في النقاش السياسي حول مستقبل الدولة السورية. لكن في المقابل، يواجه هذا المفهوم مقاومة شديدة من بعض الأطراف التي ترى فيه تهديداً لوحدة البلاد أو مدخلاً للتقسيم، بل ويصل الأمر أحياناً إلى تخوين كل من يدعو إليه. فهل اللامركزية فعلاً مشروع تفكيك؟ أم أنها أحد أركان الدولة الديمقراطية الحديثة؟

أولاً: منذ نيلها الاستقلال، اختارت الدولة السورية أن تتبنى نموذجاً مركزياً صارماً في إدارة شؤون الحكم، حيث تتركز معظم الصلاحيات في العاصمة دمشق، سواء في ما يتعلق بالتشريع، أو بالتخطيط، أو بتنفيذ السياسات العامة. وقد جرى تبرير هذا النهج على مدى عقود بوصفه ضرورة وطنية، تهدف إلى صون وحدة البلاد وتماسكها في ظل تنوعها الإثني والمناطقي.

إلا أن هذا النموذج، رغم ما قُدّم من مبررات له، أدى مع مرور الوقت إلى جملة من المشكلات البنيوية. فقد عانت المناطق الطرفية من تهميش تنموي مزمن، حيث انعكس في ضعف الخدمات وتراجع مستويات التنمية. كما بدا واضحاً بطء استجابة الحكومة للأزمات المحلية، نتيجة البعد الجغرافي والإداري عن مركز القرار بمعناه السياسي، والتنفيذي. وإلى جانب ذلك، تراجعت فرص المشاركة الشعبية في صناعة القرار، ما جعل العلاقة بين المواطن والدولة أكثر هشاشة. وتزامن ذلك مع توسع البيروقراطية وتضخمها، في ظل غياب آليات فعالة للمحاسبة والمساءلة على المستوى المحلي.

ثانياً: لطالما أُثير الجدل حول مفهوم اللامركزية في الدول ذات البنية السياسية والإدارية الصارمة، ولكن الواقع يُثبت أن اللامركزية الإدارية لا تعني تقويض سلطة الدولة أو التخلي عن صلاحياتها السيادية، بل على العكس، هي وسيلة فعالة لبناء الدولة وتعزيز تماسكها. حيث تقوم اللامركزية على نقل إدارة الشؤون المحلية – كالتعليم، والصحة، والبلديات، والبيئة، والاستثمار – إلى هيئات محلية منتخبة، تتولى هذه المهام ضمن إطار الدولة المركزية وتحت مظلتها القانونية والمؤسساتية.

إن هذا النهج يُفضي إلى عدد من المكاسب الواضحة:

 فمن جهة، يُعزز المشاركة السياسية والمجتمعية من خلال تمكين السكان المحليين من المساهمة في اتخاذ القرارات التي تمس حياتهم اليومية. ومن جهة أخرى، تُسهم اللامركزية في تحسين كفاءة الخدمات العامة، من خلال تقليص البيروقراطية وتقريب القرار من موقع التنفيذ. كما أنها تُخفف من الاحتقان بين المركز والمناطق، من خلال إشراك الجميع في إدارة الشأن العام بشكل عادل ومتوازن.

وفي نهاية المطاف، تخلق اللامركزية بيئة تنموية أكثر توازناً، وتتيح للمناطق المختلفة أن تنهض بإمكاناتها الذاتية، ضمن وحدة الدولة لا على حسابها.

ثالثاً: أشكال اللامركزية وحدودها هناك درجات متعددة من اللامركزية، تبدأ من نقل بعض الصلاحيات الإدارية إلى المحافظات (كما هو الحال في فرنسا)، وصولاً إلى نماذج أشبه بالفيدرالية (كما في ألمانيا أو العراق).

في الحالة السورية، يُطرح نموذج اللامركزية الإدارية الموسعة، والذي يضمن بقاء سيادة الدولة كاملة، مع منح المجالس المحلية صلاحيات واضحة ومحددة في إطار وطني جامع.

رابعاً: كثيراً ما يُتهم أنصار اللامركزية في السياق السوري بالخيانة أو المساس بوحدة الدولة، في خلط واضح بين المطالبة بإصلاح هيكلي في بنية الحكم، والدعوة إلى الانفصال أو التقسيم. ويعود هذا الالتباس إلى عدة عوامل متجذرة في الذهنية السياسية والموروث الأمني الذي حكم البلاد لعقود.

فالخلط بين اللامركزية والانفصال يعكس سوء فهم عميق لطبيعة النظام الإداري المطلوب، إذ تُختزل اللامركزية – خطأً – بأنها تقويض للدولة، بينما هي في جوهرها وسيلة لإعادة توزيع السلطة داخل الدولة نفسها. ويزيد الأمر تعقيداً، الخوف المتكرر من استغلال الهويات المحلية لأغراض سياسية أو انفصالية، وخاصة في بيئة متعددة الأعراق والطوائف، حيث يغيب غالبًا النقاش الهادئ حول المفاهيم الدستورية الكبرى.

كما لا يمكن تجاهل بقاء عقلية الدولة الأمنية القديمة، التي اعتادت النظر إلى كل شكل من أشكال التنظيم المحلي أو المطالبة بالتمثيل على أنه تهديد يجب احتواؤه أو إسكاته. وهذا ما عطّل كثيراً من فرص الإصلاح المؤسسي، وساهم في تكريس مركزية خانقة لم تعد قادرة على الاستجابة لمطالب المجتمعات المحلية.

لكن الواقع يُظهر بوضوح أن المطالبة باللامركزية لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة معاناة حقيقية عاشتها المناطق السورية المختلفة بسبب التهميش، وغياب الخدمات، وانعدام المشاركة في اتخاذ القرار. كما أن التجارب الدولية تثبت أن الدول الأكثر استقراراً في العالم – سياسيًا وتنمويًا – تعتمد نماذج لا مركزية مرنة وفعالة، توازن بين سلطة الدولة ومطالب المجتمع.

لذلك، ما يجب توضيحه للرأي العام اليوم هو أن اللامركزية ليست خروجًا عن الدولة، بل هي عودة الدولة إلى الناس؛ وسيلة لجعل الحكم أكثر قربًا، وأكثر مساءلة، وأكثر قدرة على معالجة المشكلات المحلية بفعالية. وفي المعادلة الوطنية، لا يمكن تحقيق لا مركزية بلا وحدة وطنية، لأن ذلك يقود إلى فوضى، كما أن استمرار المركزية بدون آليات مساءلة ومشاركة حقيقية، لا يؤدي إلا إلى الاستبداد.

خامساً: اللامركزية، إذا ما طُبقت ضمن إطار الدولة الوطنية، يمكن أن تُمكّن جميع مكونات المجتمع السوري – بكل أطيافهم ومناطقهم – من إدارة شؤونهم اليومية بأنفسهم، ضمن منظومة قانونية تضمن السيادة، وتحمي التعدد، وتؤسس لوطن جامع لا متنازع عليه.

إن مستقبل الحكم في سوريا لا يمكن أن يُبنى على استمرار النموذج المركزي الصارم، كما لا يمكن أن يُترك لمغامرة اللامركزية المنفلتة من الضوابط. بل إن الطريق نحو دولة متوازنة ومستقرة يمر عبر تصميم نموذج توافقي للحكم، يحقق الانسجام بين مستويي السلطة: الوطني والمحلي.

فالحل لا يكون في مركزية خانقة تحتكر القرار وتُقصي المناطق من المشاركة في صياغة قراراتها المحلية، ولا في لامركزية مفككة تُضعف الدولة وتعرض سيادتها للتآكل، بل في توازن دقيق يُعيد تعريف العلاقة بين المركز والمحيط. مركز قوي وفاعل يضمن وحدة القرار في القضايا السيادية الكبرى، مثل الدفاع والسياسة الخارجية والسياسات النقدية والمالية، ويؤمّن انسجام الدولة في توجهاتها الأساسية.

في الوقت ذاته، يجب تمكين الهيئات المحلية من إدارة شؤونها الحيوية – في التعليم، والصحة، والخدمات، والبلديات، والتنمية – عبر صلاحيات حقيقية، تخضع للمساءلة من قبل المجتمع المحلي نفسه. وبذلك، تُصبح الدولة أداة لتمكين المواطن، لا عبئًا عليه، وتتحول السلطة من احتكار فوقي إلى شراكة أفقية تصون وحدة البلاد، وتحترم تنوعها.

هذا النموذج التوافقي لا يُبنى فقط على نصوص دستورية، بل على ثقافة سياسية جديدة، تعترف بأن الدولة لا تكون قوية إلا إذا كانت عادلة، ولا تكون عادلة إلا إذا كانت قريبة من الناس، تسمعهم وتحاسب نفسها أمامهم.

بالنهاية اللامركزية ليست خيانة، بل فرصة تاريخية لتصحيح اختلالات مزمنة في علاقة الدولة بمواطنيها. وهي ليست مشروع تفكيك، بل رافعة لوحدة وطنية قائمة على العدالة، والمواطنة، والكرامة. في سوريا الجديدة، يجب أن نكف عن تخوين المفاهيم، وأن نبدأ في بناء تفاهمات دستورية تليق بدماء التضحيات وتطلعات الأجيال القادمة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني