fbpx

سليم بركات في الشعر: ماذا ترك لمجازات اللغة؟

0 581

غالباً ما نصاب بالحيرة كلما طرقت سيرة سليم بركات سياق الحديث في الأدب العربي وفنونه. نقف لنأخذ شهيقاً متوازناً يكفي لوضع قاعدة لغوية تمثّل منطلقاً مناسباً للحديث عن الشاعر والروائي “سليمو” – كما يحلو لأبناء منطقته تسميته – الكردي، العربي، السوري.. المزيج الإشكالي المبدع بين كل هذا وذاك.

فمن الطبيعي أن يتغنّى الإنكليز بإيليوت والفرنسيون بميشال بوتور والألمان بغونتر جراس والإسبان بلوركا، والعرب بنزار قباني أو منيف؛ الذين كتبوا عن أقوامهم بلغاتهم قبل أن تترجم أعمالهم إلى لغات العالم المختلفة. أما سليم بركات فكتب عن تراث الكورد وغيرهم من أقوام الجزيرة السورية، وقصصهم وآلامهم بلغة العرب التي أتقنها أكثر من بعض أدباء قومها، فجسّد بذلك فكرة المواطنة والتعايش في الأدب واللغة والتاريخ والحضارة.

وربما نجد في توصيف “صبحي حديدي” معنىً أقرب لفهم حالة بركات: “تعتبر القامشلي موطناً لأقوام من الأكراد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين والبدو الرحّل والعشائر المستوطنة، الأمر الذي استدعى تعدّدية أخرى على صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراثات والأساطير. في هذا المكان – القامشلي – ولد سليم بركات عام 1951”.

حين يقول فيه محمود درويش “منذ غزا سليم بركات المشهد الشعري العربي، بشرنا بشعر جديد مختلف”، وحين يصفه أدونيس بأنه يمتلك “مفاتيح اللغة العربية في جيبه”، وحين يخاطبه نزار قباني قائلاً: “مولانا ماذا أبقيت؟ ارفع يدك عن الشعر!” فنحن بالتأكيد أمام شاعر استثنائي.

فعلى سبيل المثال، في قصيدته/الديوان “سوريا” التي كتبها في مطلع عام 2018، أي في خضمّ التراجيديا السورية؛ يعبّر عن إرث حضاري ضمّ رقصة كردية جبلية على أنغام أغنية عربية فصيحة تحكي قصة مزيج اجتماعي تاريخي على أرضٍ عمرها ملايين السنين رغم كل الألم الذي ضمّته القصيدة:

– “ركبتايَ خارتا، والسماءُ خارتِ. الْسماءُ يُصلحِها الغزاةُ. الْسماءُ العطْلُ. الْسماءُ الوَزْرَةُ بالدمِ عليها من شَلْشَلهِ. اْلسماءُ شدوُ الجنونِ البلبلِ، ورقصُ البلبل فوق ذيل التِّنينِ. السماءُ الركلُ من مُعْتَقَدٍ إلى مُعْتَقَدٍ. لا دليلَ على السماءِ بعدُ. لا دليلَ على سُلمٍ إليها، أو نزولٍ منها بسُلَّمٍ إلى الإنسانِ، أيها البلد”.

ويمضي في رحم القصيدة: “عَدَمٌ في التلخيصِ. دولٌ ملخَّصاتٌ، والعبورُ ملخَّصاً من حصونِ الآلهةِ إلى المسالخِ. أصباغٌ لدِهانِ الجبلِ، ودِهانٌ للبحر مُذْ تقشَّرت أساطيرُهُ.”

بالرغم من الكلمات الفجائعية، إلا أن المتعة التي يعيشها المتلقي، على اختلاف انتمائه، عبر قراءته لبركات عموماً، تكمن في مقدرة الأخير على رسم لوحاتٍ شعرية متكاملة الأركان ولكن بألوان هجينة مُستساغة، يحاول بعضهم تشبيهها بلغة الأساطير الملحمية، ربما ليضيف على شعره بعداً قِيَميَّاً رفيعاً، إلا أن سليم، بالرغم من إبداعاته المجازية والبلاغية ينتج قصيدة خليطة من البساطة والتعقيد والبراعة والجمال.

وإذا قلّبنا دواوينه الغزلية سنقرأ مواصفات لنساء لا يختلفن عن نساء باقي الشعراء فحسب، بل نجدهن جامعات لهنّ. 

نتلمّس ذلك المركّب العجائبي من أصناف الأنثى في ديوانه “الغزلية الكبرى” 2016:

– راهنتُ كما راهَنَّ. لا يخفى ذلكَ مُذِ المعجزاتُ هِيَ هِيَ كالمُراوَداتِ الصخبِ بقلوبٍ في الرهانِ على

مِلْحهنَّ. لكنْ ما الرهانُ إن كُنَّ جَمَعنَ الجيادَ كلَّها في أَرَقِ العاشقاتِ؟ بقلبٍ، أو مِنْ دونه تُسْتدانُ زفرةُ العاشقِ. بقلبٍ، أو من دونه، أحبهنَّ يتفهَّمن أعذارَ الحدائقِ، ما أثناهنَّ، من قَبْلُ، نقدُ النباتِ مجازفةَ الزُّرقةِ بأحكامِ الأخضرِ، وأعذارَ نوافيرها.

ولا توضيحَ توسَّلْنَه من انقسامِ الجبل على إرث السهلِ، ومن مقاضاةِ السُّحبِ للرعدِ على نقْضهِ هدنةَ البرقِ، ولا تلمَّسْنَ باعثاً على شَكاةِ النهر من حجارة المجرى تدقيقَها في أدبِ الماء.

يتفهَّمن إفراطَ المنخفضات في حيائها، ورعونةَ المُحتجِب في حجابهِ، ورصانةَ وصفِ المعقولِ بريئاً يتولاَّه العَدَمُ عن لسانِ التَّابلِ الأول في مأكولِ الإنسان”.

هو لا يتحدث عن امرأة ما أو حبيبة تخصّه، فلا وجود للمرأة الفرد في قصائده. المرأة عند سليم هي جميع النساء، وهنّ لسن بالضرورة أن يمثّلن العنصر الأنثوي الحاضر في أشعار الآخرين، وإنما نساء بكل صورهن وتفاصيلهن ولكنهن غير محسوسات! أحياناً يمثلن الوطن بكل تفاصيله وعناصره، النهر والجبل والشجر وتضاريس الجزيرة وحارات القامشلي، وأحياناً يمثلن كل عنصر على حدة، ولكنهن يبقين النساء اللواتي نعرفهن.

لا شك أن الثروة اللغوية التي يمتلكها سليم مكّنته من الإحاطة بكل ما يريد الإفصاح عنه سواء في شعره الغزلي أم غيره، لكنه حقيقةً لا يعتمد إلا ما يخرج من روحه:

– عشَّاقٌ مؤجَّلون، استُدْرِكَتْ قلوبُهم فأعيدوا إلى المكان الخطأِ عاشقيْنَ قبل الأوانِ، خدعتُهمُ الجهاتُ اليسرى من قلوبهم؛ خدعوا قلوبَهم بجراح المائيِّيْنَ، ويزعمون أنْ لم يحبُّوا بعدُ؛ لم يجدوا نساءً يحبونهنَّ، لكنهم في حبٍّ حَمْداً للأحَمْدِ، عشاقٌ مؤجَّلون، قلوبُهمُ القلوبُ الأقسى، ويقينُهم اليقينُ الأقسى، وهواهُمُ الجزَّارُ متَّئدٌ، حَذِرٌ في البَتْرِ، يستوفي العقلَ بلا قَشْرٍ، والعظْمَ بلا كسرٍ، والجِلدَ سلْخاً بلا شَخْطٍ أو خَدْشٍ” (من ديوانه: شمال القلوب أو غربها).

ومهما غصنا في محاولات تشريح هذا “السليم” فلن نجد أدلّ من كلام بول شاؤول حين قال فيه “سليم بركات هو أكثر من حالم، هو صانع أحلام، وأكثر من لغوي، هو صانع لغات. هو شاعر الهلوسة الخصبة حاضنة الوساوس والخيبات والكوابيس والقسمات، وعزلات الكائن ووهنه وعجزه وخروجه الأبدي. وكل ذلك لا يعفيه على غير تجريد من جلجلات مجهولة، يجذرها في حواسه وفي خطابه. فاللغة حواس، والمشاعر حواس، والمخيلة حواس، وسليم بركات، على ترحاله بين الأمكنة والفضاءات والتجارب، هو شاعر الحواس بامتياز”.

– سيرة ذاتية:

سليم بركات روائي وشاعر وأديب سوري كردي من مواليد عام 1951 في قرية من قرى مدينة عامودا في ريف القامشلي.

في العام 1970 انتقل إلى دمشق ليدرس الأدب العربي ولكنه لم يبق أكثر من سنة في الجامعة.

انتقل إلى بيروت وبقي فيها حتى عام 1982، وانتقل بعدها إلى قبرص ومن هناك بدأ بكتابة الرواية إلى جانب الشعر حيث عمل بمجلة الكرمل مع الشاعر محمود درويش، وفي عام 1999 انتقل إلى السويد.

ومن أعماله الشعرية:

كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً – الجمهرات – الكراكي – بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح – البازيار – الديوان (مجموعات شعرية في مجلد واحد) طيش الياقوت – المثاقيل – المجابهات – المواثيق الأجران، التصاريف، وغيرها – المعجم – ترجمة البازلت – آلهة – شمال القلوب أو غربها – سوريا – الغزلية الكبرى.

من أعماله الروائية وغيرها:

هاته عالياً، هات النفير على آخره (سيرة الصبا) – فقهاء الظلام – كنيسة المحارب (يوميات) – أرواح هندسية – الريش – معسكرات الأبد – الفلكيون في ثلاثاء الموت: عبور البشروش – الفلكيون في ثلاثاء الموت: الكون – الفلكيون في ثلاثاء الموت: كبد ميلاؤس – أنقاض الأزل الثاني – الأختام والسديم – دلشاد (فراسخ الخلود المهجورة) – السلالم الرملية – لوعة الأليف اللاموصوف المحير في صوت ساراماك – السماء شاغرة فوق أورشليم 2- حورية الماء وبناتها.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني