رياض الترك.. رجل الحرية المستحيلة
رحل رياض الترك مع أول يوم من العام الجديد تاركاً وراءه إرثاً ثقيلاً من مدرسة تفرد فيها أستاذاً وخبيراً وملهماً، وهي مدرسة الحرية المستحيلة في الوطن المنكوب.
لا أعتقد ان سورياً يعمل في الشأن العام إلا وقد عرف رياض الترك كثائر مستمر تعرفه سجون الاستبدادات في سوريا من عصر عبد الناصر إلى يومنا هذا، ولم يسلم في سنواته الأخيرة من السجن إلا لأنه اغترب مجبراً، وبات بعيداً عن عنابر السجون التي اعتادها واعتادته ولكنه ظل يحن إلى سوريا بكل ما فيها، في درس بافلوفي فريد في طبيعة الإلف والإلاف.
بلا د ألفناها على كل حالة.. وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هوا بها.. ولا ماؤها حلو ولكنها وطن
لم يكتب لي لقاء برياض الترك ولا أستطيع أن أزعم أنني من المقربين إليه ولكنني واحد من السوريين الذين استمعوا خطابه الصريح الخالي من الدبلوماسية واللباقة واللطف والصريح مباشرة ضد الدكتاتوريات والظلم، وهو خطاب كنا نتجاهله تماماً ونعتبره تهوراً وسذاجة في حين كان الخطاب الذي تعودناه هو خطاب الدبلوماسية الرقيقة المضمخ بالمجاملات والتمجيدات التي نسبلها إلى حكامنا تحت عنوان مصلحة الدعوة والحكمة والاعتدال والمداراة.
لقد كان رجلاً خالياً تماماً من ثقافة المداراة ولم يكن يعرف أي فرق بين المداراة والمداهنة، وقد طبق في حياته قاعدة السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، لمدة خمسين عاماً بلا توقف وهو نضال لا نعرفه ولا نفهمه ولا نقدر عليه.
لا أكتب هذا الرثاء لأبشر الراحل بمعارج الجنة وإن كنت على يقين أن العدالة تقتضي أن يجازى الناس بما عملوا يوم القيامة وليس بما تصوروا من أفكار عن قصة الخلق والطبيعة، ونحن من القوم الذين يحسنون الظن بالله إلى النهاية ونؤمن أن ملكوت الله الأعلى عالم خاص بالمرحومين ولا تكاد تجد فيه مرجوماً.
ولكن المناسبة ليست لدراسة اللاهوت بل للتفكير بعمق حول الحاجة إلى نشر ثقافة كهذه في نظامنا التعليمي، ونشر أخبار رجال يقفون بشجاعة أمام التاريخ فيقولون كلمة الحق، ويدفعون أثمان ذلك غالياً، وأفضل الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر.
لقد تم تبخيس قدر هؤلاء الرجال الذين يحملون الجرس ويتقدمون الصفوف، وتم وصفهم بالمتهورين الذين يفتقدون الحكمة، وأن الحياة تتطلب قدراً كبيراً من المصانعة والمجاملة والتقية، وقد أفرطنا في ذلك بشدة حتى خلقنا جيلاً بوجهين ولسانين وصولاتين، يبش في وجه أقوام وقلوبه تلعنهم، ويقبل اليد التي يتمنى لها الكسر، ويرى النفاق نجاة من عسف الاستبداد.
في الواقع لا يمكنني أن أعتبر هذه المواقف التي توردك السجون الطويلة تكليفاً شرعياً فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولكن لا أقل أن تكون هذه الكلمات في ضمائر أبنائنا وفي مكان القدوة منهم، حتى لا يأتي جيل يكرر أخطاء الماضي ويزخرف للمستبد ويزين له طغيانه وجرائمه على بساط من الحكمة والمدارات وبعد النظر.
ليس رياض الترك معجزة ولا هو بدع من الثورة أو المعارضة، إنه شخص طبيعي، لا يختلف في شيء عن أي مواطن يعرف حقوقه في الدول الديمقراطية الناجحة، فالاعتراض على الاستبداد ومقارعة الظلم ورفع الصوت بالحقوق هي أبسط أشكال حقوق الإنسان، ولأننا فقدنا هذه المعاني فقد صار من يمارس هذا الحق بطلاً لا يشق له غبار وزعيماً لا يتكرر ومجاهداً نادراً وشوكة في حلق الظلم والاستبداد.
لقد سقطت سوريا في أشد المحن خلال تاريخها، وأصبحت بكل المقاييس رمز الدولة الفاشلة حتى قال رئيسها للاجئين أين تعودون؟ لا يوجد هنا ماء ولا كهرباء ولا تعليم ولا بنية تحتية… لقد وصلنا إلى فشل اجتماعي وفشل اقتصادي وفشل سياسي وفشل أخلاقي… والكلام لرئيس الدولة بالحرف..
على كل حال إذا كان هذا هو الوصف الدقيق لواقع الحال وحتى لا تتكرر المأساة فإن علينا أن نحصن أجيالنا الآتية من الاستبداد، وأن نعترف بأننا جميعاً شاركنا في تغول الاستبداد، فإنه إذا جبنت الأمة أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها، وإن الدين والعقل والمنطق ليدعونا إلى منح الأجيال الآتية إرادة الرفض، وشجاعة النصيحة، حتى يجد المستبد نفسه مرغماً أيضاً على الاستماع للناصح والاستجابة لمطالب الناس وعنائهم.
إنني لا أتحدث هنا عن فيلسوف عميق ولا عن أكاديمي مخضرم ولا عن زعيم كاريزماتي تحتشد في جنازته الملايين، بل أتكلم عن رجل عادي يجمع محبوه وشانئوه أنه كان صادقاً في خطابه وأنه لم يجامل ولم يصانع ولم يتردد في قول كلمة الحق، ودفع ثمن ذلك السجون ومع أنه نجا في النهاية من دوامة العودة إلى السجن المعتادة حين نجحت بناته في تدبير سفره خارج البلاد ولكنه ظل يقول من منفاه لقد ارتكبت خطأ خطيراً حين تركت سوريا، كان علي أن أبقى هناك وهو يعلم أن ما ينتظره في سوريا ليس قاعات الجامعات ولا مراكز الثقافة ولا منصات المناصب والإعلام، بل كان على يقين أنه ينتظره شيء واحد وهو العودة إلى عنابر السجون، ووجوه الجلادين الكالحة.
لقد رحل اليوم، وبات حديثاً وذكرى ولكنه سيبقى درساً في الشجاعة وكلمة الحق
كفى حزناً بموتك ثم إني.. نفضت غبار تربك من يدي
وكانت في حياتك لي عظات.. وأنت اليوم أوعظ منك حياً