fbpx

“دمشق عاصمة الحياة”!

0 881

“خسارة سعيد الغزي في الجولة الأولى من الانتخابات التي ضمنتْ وزارته نزاهتها! ” مثل هذا المانشيت سيعتبر دعابة تستدعي سخريةً سوداء، إذ لن يصدّقه أبناء هذه الأيام أبداً، وخاصة بعد ما عايشوه من انتخابات لمجلس الشعب، حيث لا نعرف عن المرشحين أكثر من صورهم الباسمة ورغبتهم المضمرة للحصول على حصانة، وإن كنت لا أبرر ضعف الاطلاع لهذا الجيل إلا أنني أغفر لمن شهد هذه الحرب من أن يثير فضوله البحث عن تاريخ هذه المدينة، وخاصةً بعد أن أصبحت الدراما التلفزيونية مصدراً رئيساً للمعلومات عن ماضيها، ومروّجاً لوجه مزيف عن مدينة يسمونها جوراً الشام. 

أتأمل وجه دمشق الآن منعكساً في العيون المنكسرة وعلى زجاج واجهات المحلات الكئيبة، أضعه أمام الوجه الذي رسمه مؤرخوها المخلصون البديري الحلاق وابن عساكر ومحمد كرد علي، وكأني أرى عجوزاً أحاول بيأسٍ أن أباهي بصباها مدن العالم، ماذا فعل السوريون بشوارعها وأبنيتها وأوقافها، ولماذا أجبرت على ارتداء أسمال بالية، بعد أن كانت تتألق تحت الأضواء بوشاح بني أمية يزينها وأردية المجد التي خاطها المخلصون ممن عاشوا فيها ولها.

أكوام القمامة تملأ المدينة كبثورٍ في وجهها النضر، والحرب حجة كل تقصير، حجة الإنسان العادي قبل أن تكون حجة الحكومة بموظفيها ومسؤوليها! ترف زائدٌ ربما أن أطلب من جائع ومشرد أن يراعي تاريخ أقدم العواصم، وينتبه لقواعد النظافة التي طالما رافقتها؛ لكن أستمد الشجاعة والقوه لمثل هذا الطرح من استعادتي لذكريات قديمة تحكي عن أناقة دمشق ونظافتها، ثم ينقر رأسي سؤال، كيف يجوع أحدٌ في دمشق! وعند مقام الشيخ محي الدين بن عربي كان يُطبخ من (الهريسة – لحم معجونٌ مع القمح) ما يلبّي حاجة كلّ قاصد على مدار الأسبوع. 

كيف ينقص القمح في دمشق، بعد أن كان يُوزّع على بيوت المحتاجين قبل عقودٍ قليلة! أعلم أن النقص يشمل كل شيء، مقومات الحياة الأساسية، والكمالية، لكن الخبز مادة الحياة الأولى وعماد الحقيبة الغذائية للدمشقي، فأرغفة “المرقد”، أو “المشروح” موجودة في كل مائدة على مدار الوجبات الثلاث؛ لذا حرصت الطبقة الحاكمة في عهد الاستقلال الأول على تأمينه وبسعر متاح للجميع، وقد كانت مادة الخبز سبباً في استقالة وزارة جميل مردم بيك الثانية، بعد أن نشب حوار تحوّل إلى شجار في المجلس النيابي لتثبيت سعره المنخفض ورضخت الحكومة الجديدة لثبات السعر المنخفض، وهي الحكومة التي اتهمت بالبورجوازية، باعتبار هذه التسمية تهمة أو جريمة، ولكن هذه الطبقة وصلت للمجلس بانتخابات حقيقية ونزيهة، حافظت على مصالحها وكانت حريصة أيضاً على مصالح البلد وأبنائه؛ لذا كانوا يسمون بالبرجوازيين الوطنين، ليسوا كحديثي النعمة أثرياء الحرب الذين ظهروا فجأة وسط الدمار كفاصل إعلاني، وتسيّدوا ساحة المال والأعمال، الأحاديث تدور حول استثماراتهم الجديدة وكيفية سرقتهم ما يمكنهم من هذه البلاد التي صارت تعيسة – كما دعاها رياض صالح الحسين – وتشويههم ما بقي من إرث مادي على أرضها، إنفاقهم لا يتعدّى ما تظهره صورهم الفوتوغرافية من توزيع فتات على أشباح المدينة الجائعة.

بينما كانت الشركة الخماسية التي تعتبر من الشركات الرائدة والمتطورة التي نشأت بنفس أسلوب إنشاء كبرى الشركات الأمريكية عبر طرح أسهم واكتتابات، حاز أصحاب الحصص الخمسة الكبرى من الأسهم على عضوية مجلس الإدارة، ولم يتصرفوا على طريقة أفلام الثمانينيات التي تقدم الغني على أنه شرير بالفطرة، فقد كان الشركاء الخمسة من كبار المتبرعين للمساهمة المجتمعية إذ لجأ إليهم شكري القوتلي بعد حرب فلسطين لدعم الجيش السوري فقدّم هؤلاء مبالغ ضخمة دعماً للقوات الجوية السورية، وكانت الشركة كذلك تقدّم الكهرباء لمدينة دمشق ليلاً على نفقتها، حتى يوم تأميمها حينها انقطعت الكهرباء ويبدو أنها مازالت مقطوعه حتى لحظة كتابة هذا المقال.

ربما ميّزة أن يملك المرء ذاكرةً كذاكرتي، هجينة نصفها أصيل مكتسب من معايشة الحياة اليومية خلال سنوات حياتي كأي ذاكرة أخرى تتراكم شيئاً فشيئاً وتحصل على شخصيتها الخاصة ومعالمها وقسماتها، والقسم الآخر تم لصقه بعد أن تكوّن داخل عقول المحيطين بي ممن عرف الشام قبلي بسنوات بعيدة، فعندما أستمع لحديث أحدهم، أفرغ رأسي من كلّ التفاصيل الثانوية، أرميها، أرتّب ذاكرتي الأصيلة وأوسّد مكاناً لذكريات من حولي لتتربع وسط المكان إلا أنها في حالتي تخلق غصاتٍ ستخنقني يوماً، صرت أحنّ لها لذكرياتي الجديدة – التي كانت ذكرياتهم قبل أن تدخل أذني – فلا يليق بها أن تحس بالغربة بين البقية، تتحرك تلك الذكريات التي ورثتها عمن سبقني عندما أعبر ممراً فوق فرع بردى “يزيد”، لتتسارع خطواتي بشكل عفوي هرباً من الرّائحة الكريهة المنبعثة من “جثة” النهر إلى أحاديث والدي وأعمامي وهم يتنزهون على ضفتيه يسبحون أو يصطادون السمك من مياهه الغزيرة، أو يركبون القوارب عند فرع النهر المار من شارع بيروت خلال إقامة معرض دمشق الدولي.

أجمع مشاهداتي كألبوم للصور عالي الدقة، أحاول تفكيك معطياتها لأعرف إذا كانت هذه العاصمة ستسترجع مكانتها يوماً ما كعاصمة حضارية وهي تحمل ذاكرة وتاريخاً يؤهلانها للنهوض ونفض كتل الأسمنت عن كتفيها، تقف منتصبة تغسل وجهها من دماء سالت، ترمي الغرباء ممن أفسدوا حكايتها، تصالح ساحة المرجة التي صارت بيتاً كبيراً للدعارة لسنوات، ثم مكاناً مفتوحا غريباً عن نسيج دمشق، لا يسعك أن تقف وسطه وتستحضر ذاك اليوم حين أعلن الاستقلال عن الفرنسي من هذه الساحة ذاتها، لا تستطيع أن تستحضر رجال الكتلة الوطنية الذين قاموا بالمفاوضات مع خلفية موسيقية للذاكرة بصوت سلامة الأغواني “أهلاً برجال سوريا” ؛ هل بقي منهم أكثر من قصص قريبة للخيال نسمعها عن رجالات العهد الوطني، فارس الخوري يؤدي الشهادتين على منبر الجامع الأموي كرمز للوحدة الوطنية بعد أن أخبره غورو أن فرنسا جاءت لحماية المسيحيين، وهاشم الأتاسي يسلّم كرسي رئاسة الجمهورية إلى شكري القوتلي في احتفال وطني سلمي، خالد العظم الذي استقال من الحكومة لمنع إتمام صفقة فاسدة.

أما اليوم فكلٌ يبحث عن منفعة مالية أو حضنٍ يضمه، ديناً كان أو طائفة، قومية، إثنية أو انتماءات موغلة في القدم لم يبق منها سوى رُقم متآكلة، اليوم النجاة فردية لمن استطاع إليها سبيلاً.

لم تعد سوريا ملاذاً لأحد بل هي ذريعة للسرقة والفساد، الواقع يتصبب عرقاً الآن وذاكرتي توسّع جدرانها لقصص جديدة، والأمل الساذج داخلي ينتظر مانشيتاً جديداً “عودة دمشق عاصمةً للحياة”.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني