fbpx

خطاب الكراهية في الدين وأثره على المسلمين

0 165

إن الذي ينظر إلى الإسلام بعينِ منصفة يتأكَّد أنه أمام دينٌ لا يعرف العنصريَّة مطلقًا، بل هو دين يدعو إلى التعايشِ مع جميع الناس وشتَّى الأمم على اختلاف أجناسهم وما يعتقدونه،. فالعنصريَّة التي تعني التَّفْرقةُ والتمييزُ في المعاملة بين الناس على أساس من الجنس، أو اللَّون، أو اللغة، أو الدِّين، أو حتى المستوى الاجتماعي والطَّبَقي، بعيدة عن أصل الدين رغم أنها متجذِّرة في البشرية منذ القِدم، وموجودة لدى العربُ قبل الإسلام، فكانت سائدةً في القبلية والمفاخر والتهاجي على أساس النسب أو العصب، وفي التقسيم الطبقي حيث السادة والعبيد.

حارب الاسلام العنصريَّة والطبقيَّة بشتَّى أنواعها وأشكالها وجعل أساس التفاضل بين البشر يقوم على التقوى، وهي حسن العمل لاعمق النسب، فالناس من أصل واحد، وهذا الأصل مخلوق من تراب؛ قال الله تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ “، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اللهَ عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهليَّة وفخرَها بالآباء، مؤمنٌ تقيٌّ، وفاجرٌ شقيٌّ، أنتم بنو آدم، وآدمُ من تراب، ليَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنما هم فَحْمٌ من فَحْم جهنَّمَ، أو ليكونُنَّ أهونَ على الله من الجِعْلان التي تدفع بأنفها النَّتْن)، وروى أبو داود عنْ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ أن رسول اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم قال: (ليس منَّا مَن دعا إلى عصبيَّة، وليس منَّا من قاتل على عصبيَّة، وليس منَّا من مات على عصبيَّة). وحين يتدافعون فيما بينهم على أمر أو يتفاخرون يقول مستنكرًا: ( ما بالُ دعوى الجاهليَّة؟!)، ويقول: (دَعوها؛ فإنها مُنْتنةٌ).

وكان سعي الإسلام حثيثًا نحو إزالة الفوارق الطبقيَّة بين أبناء المجتمع الواحد، وظهر ذلك جليًّا في جملة تشريعاتٍ تهدفُ إلى تحرير العبيدِ، ومنع الرِّقِّ الذي كان منتشرًا بقوة في الجزيرة العربية، وفي غيرها قبل الإسلام، فجعَل عِتْقَ الرِّقاب كفارات لأعمال وذنوب، غايته من ذلك انهاء هذا النظام الذي يفرق بين الناس، ويلغي التفاوت بينهم، فساوى بين العرب وبقية الشعوب، وكان بينهم أسياد منهم صهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي، وكانت العهود والمواثيق مع اليهود ومع النصارى فلا استعلاء ولا تفاوت حتى يغدر طرف فيعامل على غدرته. لقد أزال الاسلام الطبقات وأذاب الفوارق التي تقومُ على أساسٍ من الجنس أو العِرق أو اللون، واقتص من الأمير للحقير ومن الغني للفقير ( حادثة جبلة بن الأيهم). وكان يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه حتى ولو كان مخالفًا في الدين والملَّة؛ ( حادثة القبطي مع ابن عمرو بن العاص وقول عمر “اضرِبِ ابنَ الأكرمين”. وقوله للقبطي “ضَعِ السَّوْطَ على صَلْعةِ عمرو”. وقوله لعمرو: مُذْ كم تعبَّدْتُم الناسَ وقد ولدَتْهم أمَّهاتُهم أحرارًا؟). هذا هو الاسلام؛ أما مانراه من المسلمين فقد بدأ الانحراف مبكرا وعادت الجاهلية سيرتها الأولى، ومانراه هو اسلام مواز لايحمل من الاسلام إلا اسمه، وباسمه عاد التفاوت بين الأجناس، والاحتقار لبعض الطبقات، والعبودية وإن بأشكال حملوها للشرع بتأويل معرفي محدود، حصر الدين بحدود الصحراء ومعارف أهل الجزيرة وزمن الصحابة، دون نظر إلى الأبعاد الانسانية والامتدادات المتشعبة للمكان والزمان، وتطور المعرفة وتأثير التبادل الثقافي وانجازات العصور. لذلك نحن نعاني من تشويه الأصل، وعجز الانتشار وتراجع الوظيفة التي كان ينشدها الدين بداية وهي التعارف.

إن الدين الإسلاميَّ – بحقٍّ – أعطى النموذجَ الأسمى، والمَثل الأعلى في مناهضةِ ومكافحة فكرِ العنصريَّة والتعصُّب الأعمى، وأضره تَصدُرَ فئات تَنسبُ نفسَها إلى الإسلام، فتُخرِّبُ وتدمِّر، وتَقتُلُ بغير جريرة، وتُسيء إلى الإسلام في الداخل والخارج

المسلمون يعانون من مواقف عنصرية من دول ومن أفراد أيضا، ولكن البحث في خطاب الكراهية والعنصرية الظاهرة أو المستترة، يتطلب رؤية معتدلة لاتنحاز، تبين من أسهم ومن بدأ ومن المستفيد، وللانصاف نبدأ بأنفسنا، فنحن أولى بكشف عورات أعمالنا وأقوالنا ونقدها لنبدأ بالتغيير الذي لن يحصل حتى نغير ما بأنفسنا.

لقد ساهم بعض رجال الدين والسياسة والمال والفكر والإعلام، وعناصر مؤثرة في المجتمع في جعل رسائل الكراهية ضمن أطر شعبوية تعبوية، تساهم بشكل رئيسي في تأجيج المشاعر والتحريض على الآخر المحتلف، فالإنسان العادي اعتاد منذ طفولته على سماع الخطاب العنصري التاريخي القائم على تبخيس عقائد الآخرين، وشيطنة أفعالهم ووصمهم بما يجعلهم مثار سخط ومناط انتقام، وغدت الأفكار التعبوية حقائق لا تقبل الجدال ولا الُنكران، لها جذور تاريخية تأصّلت واستقرت في الأعراف والمفاهيم والمبادئ، وعوملت كثوابت في تشكيل الوعي والقناعات. وتأصيل خطاب الكراهية جعل الانفجارات الاثنية والدينية والطائفية سهلة التبرير وتلقى الثناء أو المديح، وأقل هذا الخطاب توجيه الاهانة للآخر بلا ندم، واحتقاره بلا مبرر، واستمراء تعذيبه أو حتى قتله بلا لائمة. وأخذ خطاب الكراهية يغطي العديد من أشكال التعبير التي تنشر أو تحرّض أو تعزز أو تبرر، أو تكرس النظرة الدونية والتعالي والتمييز ضد شخص أو مجموعة، وعدم التسامح وقبول الآخر لأسباب إقصائية يتم عقلنتها بصورة تدريجية عبر الأجيال. قاد هذا إلى التعصب العنصري الاثني أو الديني والطائفي والثقافي أيضا، وعليه ارتكبت مجازروجرائم بحق أفراد وشعوب، كل ذلك مرتبط بمشاعر الكره التي تولد الانتهاكات الجسيمة، والتي تزرع الضغينة بين الشعوب والأفراد، وتمنع علاقات الود والاحترام، وتقود إلى انكار المساواة، ورفض ضمان الحريات ومبدأ الكرامة الانسانية.

بهذه الشاكلة كان التطرف الاسلامي يزرع بذور الكراهية والتفرقة العنصرية، محتجا إما بوصايا بغض الكافرين والملحدين، ووجوب الكراهية بقوة الشرع والتزام أوامره. وإما بالتزام جانب البراء من المخالفين وقتالهم بالسيف والكلمة، واستخدام التأويل الفاسد في زرع بذور الكراهية إلى درجة استخدام العنف، واستخدام التأويل الفاسد لمثل قوله تعالى ” وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله” فتفسير هذه الآية بعيدا عن سياقها فيه اكراه، ومنهج الدين أنه ” لا إكراه في الدين”. فالقتال المأمور به هو الدفاع عن الحريات، وليس التفسير المغلوط بقولهم *حتى لايكون شرك*، فإن غاية الدين هو تحقيق الحرية وهو هدف العبادة، ” وماخلقت الجن والانس إلا ليعبدون”، وحيث أن لفظة ” عبد” هي من الأضداد، وهي تعني عصى وأطاع بآن، فالمقصود من الآية * خلقتهم مختارين بين الطاعة والمعصية وهم أحرار في اختيارهم وهذا منهج الخلق للتدافع بين الناس والحساب الأخير عند الله على كفر أو إيمان وليس عند الناس* .

“لا إكراه في الدين” يعني نفي ممارسة الاكراه لادخال أحد في الدين، لأن الدين طاعة وخضوع عن معرفة، والتزام من غير قهر أو اجبار، وهو طريقة ومنهج يتبع ويتكرر حتى يكاد يصبح عادة، وهو انتظار جزاء مستحق على عمل مفترض، ولذلك لايجوز في الدين الاكراه لأنه بالنتيجة محبة وهي ضد الكراهية، فمن يكون على دين لايُكره أحدًا على اتباعه، ولايَكره أحدًا من أجل مخالفته، ولو كان الدين بالاكراه لكان أولى بالخالق على فعله وهو الذي يقول” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”، فهذا دليل على أن كفر بعض الناس واقع بمشيئة كونية، وحين يأتي الحطاب التحريضي الذي يبث الكراهية مع المخالفين فإنه يخالف الناموس، ويسعى في الأرض فسادا بإفساد النفوس، وجعلها تتباعد بدل أن تلتقي وتتحاور وتتعارف، وتنقل خير ماعندها من ود لكسب النفوس .

إذا كان النهي عن الاكراه في الدين دينا، فبث الكراهية أكثر نهيا، لأنها تسبب النفور وتقطع أواصر التقرب، وتسبب ببث الحروب والقتال نتيجة امتلاء النفوس بالبغض، واستعدادها لنفي المخالف من الحياة ومن الوجود. من هنا فإن ماتمتلئ به المنابر من توصيفات وشتائم وأدعية محرضة هو مخالفة دينية، وإن مانجده من صراع بين الأديان بسبب بث الكراهية المحرضة على القتل مسؤول عنه الخطاب الديني، ويستوجب إعادة النظر في هذا الخطاب، ولايكون ذلك إلا بإعادة النظر إلى الدين من خارج السياسة والصراع الاديولوجي للمتدينين حملة الرؤى السلطوية، والساعون إلى السيطرة على عقول ونفوس الناس بغاية حكمهم وسياسة أمورهم لغايات وأهواء دنيوية باسم الدين. وحديثم الذي يستشهد بآية ” إن الحكم إلا لله ” فهم يسعون للحكم باسم الله، وحكمهم بشري وغايتهم دولة ثيوقراطية وقهر ايديولوجي باسم الدين.

ومادام الرسل وظيفتهم الابلاغ وايصال الحق إلى الناس، وهم ليسوا مسؤولين عن هداية الناس لأن هذا متروك لمشيئة الناس أنفسهم ” من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. فالمهمة هي البلاغ والارشاد والمناصحة، وهذه لاتأتي من قلب حاقد ولا من تصرف جاحد، ولابد من تأكيد أن أحد جوانب حرية الاعتقاد هو ترك الناس تقرر هذه الحرية، وعدم رقابتهم، وتركهم يبحثون عن الحق لأنه ليس للدعاة إلا التذكير ” فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر”. وهذا يؤكد جانبا من جوانب الحرية، ألا وهو تحرر الإنسان من كل رقابة بينه وبين خالقه، فالعلاقة مباشرة بين الإنسان وربه من غير واسطة أو تدخل من أحد مهما كانت منزلته، سواء أكان ملكا أو نبيا أو غير ذلك.

الكراهية المبثوثة في أقوال وأعمال الدعاة لها رائحة منفرة، والبعض يراها واجبا، لأنه يعتبر الكراهية تعبير من تعابير البغض في الله، وهو ليس كذلك، فالمبغض مطلوب منه الاعراض عما يبغضه من فعل المخالف، وليس التحريض عليه والدعوة لقتله، وأفضل من الاعراض السعي للتغيير بالحسنى والجدال الأحسن معه، وحين لايصدر من المبغض إلا أعمال بغيضة وشتائم مقذعة فلا نلومن الطرف الآخر إذا بادلنا الاكراه. ونظر إلينا دون مانحن عليه.

ولأننا ننظر ناقدين لجانبنا قبل نقد غيرنا فلننظر سبب كراهية الآخر لنا

أولا من حق كل أحد أن يعبرعن معتقده وأن يعبر عن حبه لهذا المعتقد، والحب غير التعصب، فإذا وصل الحد إلى التعصب نالنا من العصاب مايفقدنا أعصابنا، ويوصلنا حد التجاوز، ومارآه منا المختلفون عنا جعلهم لايرون المحاسن فينا .

فالمخالف لنا حين لايرى في ممارساتنا إلا الغزو والسبي والتشفي بالقتل والجزية والاحتقار والدونية والسلب والنهب والاسترقاق، وهو يقرأ ذلك في كتبهم، ويسمعه في خطب الدعاة وفي برامج المتصدرين لتوجيه الناس، كيف يصدق أن الاسلام دين العدل والسلام والرحمة والحرية

والمخالفون حين لايرون من تطبيق هذا في الواقع إلا عبر فترات وجيزة في التاريخ، وأمثلة محدودة لاتمحو ممارسات الامبراطوريات التي حكمت باسم الاسلام وقهرها باسمه، ويرون الدعوات المعاصرة في فتاوى المشايخ ومتصدري الفضائيات وتقسيمهم العالم إلى فسطاطين مؤمن وكافر، وإلى معسكرين مسالم ومحارب وإلى مصيرين مقتول أو خاضع، وهو لايتوقف على المخالف بالدين بل وبالمذهب، واعتبارهم القوميات كفر، وبالتالي من تمسك بقومية فهو كافر أو مرتد. كيف يمكن لهؤلاء المخالفين أن يصدقوا دعوات المصلحين بدون أن يروا موقفا نقديا ومنهجا اصلاحيا حقيقيا.

. إن خطاب الكراهية خطاب تضليلي، يخرج الدين عن محتواه ويتبعه لأهواء الأفراد، ويبعده عن أصل وهدف الأديان بالتسامح وإقامة السلام، ويتطلب الخروج من هذه الحال تبيان خطر العصبية الفكرية أو المعرفية أو التحزبية، وعدم تقديس الأشخاص وتقديرهم إلا بقدر ما أدوا من نصح دون زيادة أو نقصان، فكل أحد يؤخذ ويرد عليه ولاثبات لقول بشر، فإن إضفاء العصمة على بشر هو وثنية نراها سادت في زماننا كما كانت في عصور سبقت وأقوام اندثرت، ويستوجب علينا ذلك لفت الأنظار إلى علل الأمة، والسعي لمعالجتها، والسعي لتبيان الحق وعدم احتكار المعرفة به أو قصره على مانعرف، فليس الحق حكرا على جماعة، وأن الحق أولى أن يتبع من أين جاء أو صدر. وعلى الجماعات الاسلامية التخلي عن التعصب الفكري والحزبي، والاعتراف بظاهرة وجود الآخر والتعايش معه على مبدأ التعارف لا التنافر، ومبدأ التناصح لا التقادح.

مساهمة الأستاذ رياض درار  في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع الأستاذ رياض درار.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني