fbpx

في خطاب الأدب والفن وحرب السنوات العشر في سوريا: حين يكون الواقع أشد مأساة من الخيال

0 141

ينظر إلى أي بلد يعيش تحت وطأة الحرب المدمرة التي تستهدف – عادة – كل ما فيه من كائن ومكان، باعتباره، يعيش في حالة مأسوية، لاسيما بعد أن تطورت وسائل الدمار التي بات من شأنها أن تبتلع البشر والشجر والحجر، ما يتم التفكير الأوتوماتيكي، من قبل ذوي النفوذ الخيرين، وفق ما بات ضمن ألفباء هذه الحالة المزرية، سواء أكانوا أفراداً، أم مؤسسات تابعة للمجتمع المدني، أم حتى حكومات، رغم أن هذه الأخيرة تكاد لا تتحرك إلا وفق بارومترات مصالحها.

أكدت الثورة السورية التي انطلقت في منتصف مارس/ آذار2011 أن الأخطوطات الكبرى التي طالما تم الانطلاق منها، لاسيما في فترات الكوارث والنكبات والحروب الطاحنة، وكانت تقتضي التصرف بكل ثقل هاتيك الجهات، قد ألغيت في فضاء هذا المكان، وتم التعامل مع كل ما يجري على امتداد تسع سنوات خلت من الدمار، والدماء، من خلال مناظير السياسة التي فاقمت الحالة المأسوية لإنسان هذا البلد، ما جعلنا نغدو – تدريجياً – أمام أرقام بيانية عالية، هي حصيلة ضحايا هذه الحرب الطاحنة، الساحقة، الماحقة، وهكذا بالنسبة إلى أعداد المهجرين داخل البلد، وخارجه، ناهيك عمن غدوا في عداد المشوهين والجرحى، أو من لما تزل مصائرهم في ذمة المجهول، بما يبلغ درجة الرعب الحقيقي، لاسيما عندما ندقق في التفاصيل اليومية لمعاناة ابن المكان، الأعزل، وهو تحت رحمة أسلحة الدمار ما بعد الحداثية، هذه الأسلحة التي هي نتاج الزواج اللاشرعي بين التكنولوجيا بالبارود، والكيمياء، وغيرهما.

مؤكد أن هذه اللوحة المرسومة، ليست عبارة عن تصورات درامية، من قبل كاتب سيناريو، ذي خيال جامح، لأحد أفلام الرعب المتخيلة، ولا هي فنتازيا مأسوية كافكاوية عدمية، وإنما هي مقاربات جد بسيطة من واقع حقيقي بتنا نعايشه – كنظارة – مهما كان الشكل التواشجي لعلاقتنا الروحية مع المكان وكائنه، حيث نستشعر لفح تلك الألهبة التي تلظينا، وهو ما لا يمكن قياسه البتة بمعاناة من يدفع ضريبة، حيث يمكن كتابة – مجلدات – عن آلام مجرد فرد من بلد الأربعة والعشرين مليوناً، فما بالنا بكل هذا الشعب المنذور للألم والأنين وانتظار “غودو” الخلاص، بيد أن هذه اللوحة رغم فجائعيتها تخفي في رمادها، المتراكم، أو المذرر، ما يوازي هذه الفجائعية، في ما يتعلق بالجانب الروحي لهؤلاء البشر الذين كان لهم حضورهم الثقافي المشهود له، إقليمياً، وعربياً، ودولياً، قبل أن تبلغ – هجرة الأدمغة ما بعد ذروتها – بل قبل أن يتم استهداف أصحاب هذه الأدمغة، الواحد منهم تلو الآخر، سواء من خلال نبذهم، أو إلغائهم، أو من خلال احتوائهم، وتفريغهم من مواقفهم الافتراضية، في ماكنات الإجهاز على الملامح.

وما أن نعاين في ما يجري في إحدى أبرز محطات “الربيع العربي” تراجيدية، أي سوريا، فإننا نجد أن المشهد الثقافي فيها بات في مرحلة محو الذات والتآكل، بعد أن كانت دمشق عاصمة ثقافية، لها حضورها في الشعر كما في السرد، وفي التشكيل كما في المسرح أو السينما أو الموسيقى، وكانت تحتضن عشرات المهرجانات البارزة في مجال الثقافة والفن والإبداع، وليس هناك أقسى من أن معرض دمشق الدولي للكتاب بات وعلى امتداد سنوات – على التوالي – غاب، نتيجة دوامة الدم التي تجري فيها، ناهيك عن بعض المهرجانات المهمة في شتى الفنون الإبداعية، كما مهرجانات المسرح، أو السينما، أو القصة، والرواية، والشعر.

ربما يخطئ كثيرون عندما يرون أن حصار ثقافة هذا المكان، قد بدأت خلال السنوات الأخيرة، حيث تشرذمت جبهة الكتابة، وبات على الكاتب إما الصمت، إزاء ما يجري، أو تكرار الخطاب الرسمي على نحو ببغاوي، أو الاضطرار للهجرة، لئلا يدفع ضريبة هتكه لما يجري في الواقع، ولكن، في حقيقة الأمر، أن راهن واقع الثقافة هو كما يقال – تحصيل حاصل – لمرحلة أطول، وتحديداً لبضعة عقود سابقة، حيث كان مطلوباً من الكاتب أن يلوك ما يملى عليه، أو أن يدفع ثمن تشبثه برأيه، ويواجه أشكالاً متنوعة، منها السجن المعنوي، أو التغييب المعنوي، أو التهميش المعنوي، في أضعف تقدير، إن لم نقل السجن الحقيقي، ومن يعد إلى ظاهرة أدب السجون في هذا المكان يجد أسماء كثيرة كتبت في هذا المجال.

لقد عرف ربع القرن الأخير، على نحو خاص صعود الدراما السورية، وتبوؤها مركزاً متقدماً، على الصعيد الإقليمي والعربي، واقترن ذلك ببروز أسماء فنانين مهمين في مجال التمثيل أو الإخراج، إضافة إلى كتاب السيناريو انتشار استوديوهات التصوير، بيد أن الدراما السورية باتت تتقهقر، إما أنها تجير لمصلحة ما هو رسمي، من خلال تبني وجهة نظر على حساب جماهيرية الفنان، بل إن الأشهر المائة الماضية شهدت هجرة الدراما السورية على أكبر نحو، إذ باتت المسلسلات السورية تصور خارج مهادها الأول المفتوح، إلى الساحات المغلقة الضيقة، مفتقدة الكثير من رونقها الأصيل، بل وخصوصيتها رغم علو قامات الكثيرين من أصحاب الأسماء الفنية اللامعة، فنانين وفنانات.

وكان في سوريا حوالي سبعمئة دار نشر، وفق الإحصاءات الرسمية، كانت تصدر سنوياً آلاف الكتب، إضافة إلى ما كانت تنتجه الهيئة السورية للكتاب التابعة لوزارة الثقافة، واتحاد الكتّاب العرب على رداءة أغلب ما هو صادر عن هذه المؤسسة كنتاج للعقل التابع المهيمن عليها، حيث تمت هجرة أهم دور نشر القطاع الخاص الرسمية، مقابل محاولة دور نشر القطاع العام الإصرار على حضورها، من دون أن تطور رؤاها النشرية، ما جعلنا نفتقد – الآن – إلى الكتاب المهم الذي يصدر عن بعض هذه المؤسسات، ونشير – هنا – على وجه التحديد إلى فترة الازدهار التي تمتعت بها إصدارات وزارة الثقافة عندما كان يشرف عليها المفكر الراحل أنطوان مقدسي الذي شكل خلال فترة إشرافه على مطبوعات الوزارة نقلة نوعية في الخط البياني للكتاب السوري، سواء أكان ذلك في مجالات الفكر والأدب والإبداع أو الترجمة أو التراث، واستطاعت دور النشر الخاصة في سوريا أن تستقطب رجال الفكر والأدب، من أكثر من بلد عربي، ليطبعوا كتبهم بوساطتها “لاسيما أن مؤلفيها لا يشكلون خطراً مباشراً على ما هو قائم”، وذلك لأن تكاليف الطباعة كانت جد رخيصة، ولذلك فقد كان الكتاب الذي يطبع في سوريا زهيد السعر، رغم أنه كان يطبع بتقنيات عالية، ولذلك فإن هذا الكتاب كان يلقى الإقبال الكبير عليه في معارض الكتب التي تقام داخل سوريا وخارجها.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني