fbpx

حين يعانق الأدب السياسة

0 1٬054

قراءة في كتاب جبر الشوفي “عالم مصطفى تاج الدين الموسى القصصي”

مدخل عام عن النقد والناقد

لا يبتعد الأدب عن السياسة وإن كان لكل منهما لغته وأسلوبه وقد يكون الأدب أكثر صدقاً فيما يذهب إلى مهمته فهو لا يمتلك غير القول والتأثير في قارئه سواء كان سياسياً يمسك بأدوات التغيير أم قارئاً عادياً يمكنه أن يشكل ضغطاً على السياسي لممارسة التغيير المطلوب.. “جبر الشوفي” رجل سياسة بدأ حياته منظماً في الحزب الشيوعي السوري منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي كمعظم أترابه في تلك الأيام إذ كان الأمل في التغيير والنهوض منوطاً بالأحزاب القومية والماركسية وغادره أواخر الثمانينيات حين لم يفلح غورباتشوف بالإصلاح وإعادة بناء الدولة السوفييتية وحزبها الشيوعي، وتراجعت، إثر ذلك، الأحزاب الشيوعية في العالم، ومن بينها الحزب الشيوعي السوري الذي كان شمله، قبل عقد ونصف، آخذاً في الانقسام والتشتت، بين معارض لسلطة البعث واستبداد عسكره، ومؤيد لها على آمال واهية، رآها السوفييت في أهمية التعاون مع ما أسموه بـ”الديمقراطيين الثوريين..!” لكن جبر لم يكف عن السياسة إذ لديه هاجس الحلم السوري بتخليص بلاده ممن غدروا بها.. ووجد في المعارضة السورية مكانه المناسب.. فكان من مؤسسي إعلان دمشق، وسجن إثر ذلك مدة عامين ونصف العام، ليلتحق بالثورة السورية في ربيعها الأول ورومنسيتها وأحلامها التي كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق لولا تكالب النظام وتوحشه، ثم لتغرق في تدخل جهات عديدة ولتذبح الثورة على يديها فانزوى كما غيره ممن أخلصوا للحلم النبيل.. ولعله يأتي يوم ويكتب عن تلك المرحلة المفصلية في تاريخ سورية..!

بعد أن قرأت كتاب جبر الأول بشغف ومتعة، قلت لجبر مازحاً: 

لو كنت بدأت حياتك بهذا الشكل من الكتابة لكسب الأدب العربي المعاصر ناقداً مهماً ضيَّعه اشتغاله بالسياسة في عصر الاستبداد، وضحكنا دونما دخول في تفاصيل نقد السياسة، تحت وطأة معاناتنا هذه الأيام لا مما فعله الاستبداد بنا فحسب بل مما ألحقته المعارضة بالسوريين من أوجاع وأحزان.. وفي الحقيقة، لا يجوز الحكم على السياسة من خلال تجربة بعينها.. فإذا كان الأدب يعنى بفن تصوير الحياة ومفردات إنسانها، ورسم صورتها المثلى، فإن السياسة معنية بتجميل تلك الصورة، فالسياسة تقود دفة العالم منذ بدء الخليقة إلى الآن.. ولكن لطالما أثَّر الأدب والفنون عامة في السياسة والسياسيين وألهم بعضهم أفعالاً إيجابية..!

في النقد

وفي عودة إلى كتاب “جبر الشوفي” فإنني أرى أنه إذا كان الناقد الأدبي في إحدى وظائفه أو مهامه تمكين القارئ من الإلمام بالنص شكلاً ومضموناً فإن “جبر” بقراءته “عالم مصطفى القصصي” قد حقق الغاية المرجوة، وأعتقد بأنه أضاف الكثير من إبداعه إلى ما في نصوص القاص، إذ استطاع النفاذ إلى عمق ذهنية الكاتب من خلال نصوصه، وإلى جوهر ما يريد إيصاله إلى قارئه، إن على صعيد المجتمع في حالته الطبيعية، أم في حالة الحرب، ومعظم ما كتبه مصطفى هو في زمن الحرب وعنها.. وما خلفته من مآس وآلام..! ولم تقف رموز الكاتب، ولا بعد خياله الذي غالباً ما يقترب في غرابته ولا معقوليته وتداخل أزمانه وأمكنته من عالم الأساطير، حائلاً دون دخول الناقد إلى كنه تلك القصص المشغولة دائماً بالهمِّ الروحيِّ للإنسان! وهو ما دفع الناقد إلى دراسته هذه، إذ قال في مقدمته: 

”دفعني نجاح تجربة الكاتب الشاب، وجاذبية أسلوبه، وعمق أفكاره إلى الخوض في قراءتها بغية استخلاص عوامل تفوّقها وذيوعها في عصر انحسار الاهتمام بجنس القصة القصيرة وانكفاء العديد من كتابها، في ظلّ هيمنة الرواية والهوس بها، حتى بدت وكأنها الجنس الوحيد الصالح لمواجهة مشكلات العصر المعقدة ومعالجة أزمة إنساننا المستلب والمهمش بوجوده كفرد وجماعة”. ص7 

وأكثر ما التفت إليه الناقد هو هم الكاتب الإنساني ومعاناة شخوصه الذين غالباً ما يكونون في القصص القصيرة من المهمشين والضائعين والموجوعين من إهمال ونسيان، وبخاصة في ظل حكومات مستبدة لا تعنى بشؤون الفرد أو المجتمع.. يشير الناقد إلى أن القاص في هذا الجانب قد أعلى القيمة الإنسانية، ويأتي بشواهد من القصص ذاتها بعد أن يفيها حقها بحثاً ومتابعة لحدثها عبر أسلوب عرضه، وصوره دلالاتها، واستخلاص فكرة القصة بدءاً من العنوان وإيحاءاته! ورأى الناقد أن الكاتب يذهب “في قصصه باحثاً لا يكل عن كل ما يعلي قيمة الإنسان الفرد والجماعة ويغنيهما، ومن أجل هذه القيمة العليا، ظل يدفع بشخوصه المهمشين والمنسيين، من ضحايا العلاقات الاجتماعية والسياسية الجائرة إلى معترك الحياة، ليباشروها ويكونوا ملء بصر وسمع الجميع”. ص8 

وإذا كان القاص قد اهتم بمظلومية الإنسان عموماً فإنه اختار المرأة لتكون نموذجاً، فظلمها مضاعف في مجتمعنا إذ يظلمها الذكر زوجاً وأخاً وأباً، وتنوعت قصص مصطفى في هذا الجانب إذ تناولت المرأة طفلة وصبية وزوجة وأماً وامرأة بالمطلق! وكذلك في حالات افتقارها إلى الحب أو خوفاً من الأهل والمجتمع في حال حدوثه، أو من خلال علاقتها بزوجها ولم يغفل الكاتب المرأة في حال الحرب! وكانت دائمة الانتصار حتى في حالة موتها! ولا يسمح المجال للدخول في التفاصيل، ولكن يمكن الإشارة إلى عناوين بعض القصص التي توجد فيها نماذج المرأة:  “حارس السينما”، “أكثر المساءات سعادة في حياة النادلة الشابة” “تمثال من ثلج” و”شيء ما لا يموت” “المرأة الزرقاء” “الجميلة النائمة في عربة القطار.. إلخ” والقصة الأخيرة نموذج لحمَّى الجنس لدى المجتمع الذكوري، وحدثها: رجلان يتبادلان النظر خلسة إلى امرأة انكشف ثوبها عن ركبتها، فيظن كل منهما أنها امرأة الآخر، ليظهر، في نهاية الرحلة، أنَّ الجسد المتنافَس عليه لم يكن سوى جثة امرأة فارقت الحياة.. فيتقاسم الرجلان أشياءها.. وقد قرأها الناقد على الشكل التالي:

“يشكل تداول حالة التلصص في المشهد تجسيداً واقعياً لحالة الكبت المتراكم في نفسيهما، (الرجلان)، وأزمتهما تجاه الجنس الآخر، وهما في مسار قطار الزمن المتحرك، لا تربطهم أية روابط اجتماعية أو عاطفية أو غير ذلك، بينما المرأة هي الجسد المثير للشهوة والمحرك لسرد مطابق فنياً، حتى وهي مجرد جثة خارج دائرة الإحساس بالزمن ومنقطعة عنه تمامًا. وبذا يبدو التلصص أحد نتائج تربية اجتماعية ومخبوءاً، تنطوي عليه ذكورة قلقة وحذرة من رقابة الآخر المفسد لخصوصية الاستمتاع باللحظة، وحيث ترتبط المتعة الجنسية في وعيه باقتناص اللذة المحرمة المقترنة دائماً بالحذر والقلق والخوف من الآخر الرقيب الاجتماعي، باعتباره حارساً لقيم مجتمع الذكورة وحاميها، وحيث المجتمع هو الرقيب الأكبر والأهم في تعميم هذا الوعي واستمراره.” ص88

خلفية الكاتب الثقافية

اهتم الناقد ببنية الكاتب الفكرية، فهو ابن تاج الدين الموسى الكاتب الساخر الذي ما فتئ، في كتاباته، ينتقد النظام، وقد واتته الفرصة عام 2011 للالتحاق بالثورة إذ خرج في المظاهرات الأولى رغم مرضه الخبيث الذي يمنعه من الركض حين مداهمة الأمن لها.. وقد تشرَّب الكاتب الشاب المعاني الإنسانية للحياة في أسرته، وعبر كتابات والده الذي قاده على نحو غير مباشر ليتقن فن القصة التي وصل إليها: “بتكامل جانبين، أحدهما: ورثه عن والده المرحوم ووسطه الأدبي والثقافي وكان له أبعد الأثر الوجداني والعاطفي في توجهاته الفكرية والسياسية، وفي انتسابه إلى الحزب الشيوعي السوري الموحد. وثانيهما: موهبته الخاصة، التي أعلنت عن نفسها في وقت مبكر وأهّلته إلى الشهرة ووضعته في صف الكتّاب المرموقين وفي دائرة الأدب والأدباء،” ص9

بين زكريا تامر ومصطفى الموسى

كثيراً ما استدعت ذاكرة الناقد أسماء أدباء كبار سواء في كتابة القصة أم في الرواية إذ أحالته بعض قصص مصطفى إليها كأرنست همنغواي وميلان كونديرا وحنا مينة.. وقارن بين مصطفى وزكريا تامر الذي ارتبطت باسمه القصة السورية، وهي في أوج تألقها إذ رأى أن القاص هو: 

“الأبرز في العقد الثاني من الألفية الثالثة، ولترتبط القصة القصيرة الحداثية باسمه كما ارتبطت مرحلة التجديد في السبعينيات باسم زكريا تامر، مع ملاحظة أنّ تجديد زكريا تامر، قد جاء مع فورة القصة القصيرة، ومرحلة تألقها واحتلالها مكاناً موازياً للشعر ومنافساً للرواية، بينما يجيء كاتبنا الشاب في مرحلة احتاجت فيه القصة القصيرة إلى من ينفض الغبار عن جمالياتها”، ص15   وفي مكان يشير الناقد إلى فارق آخر بين الكاتبين فيقول: 

“بينما كان زكريا تامر محاطاً بعدد من القصاصين المجيدين والمنافسين، يبدو مصطفى لاعباً وحيداً وبلا منافسين من حوله، ليس لأنه وضع نفسه بين الكبار فقط، بل لأنه ذهب أبعد في التجريب والتجديد، وتوظيف عناصر مسرحية حركية وتلاعب بالأضواء والأصوات واستأنس بالتغريب والإيهام ووظف لمسته السحرية الخاصة، التي جمعت عناصر السخرية العميقة والعبث والتهكم في بنية متكاملة..” ص212

الشخصية القصصية

تحت هذا العنوان أشار الناقد إلى ارتباط شخصيات القاص بالواقع القهري فرأى أنه “في ظلّ هيمنة الاستبداد السياسي والاجتماعي والتخلف، قدم الكاتب شخصيات معاصرة، تعاني الاستتباع والتمزق وتعبر عن أزمتها وتناقضاتها وطابع ثقافتها بردود أفعال عنيفة وفصامية”  

ولفت إلى أنَّ “معظم أبطال قصص الكاتب مصطفى واقعيون مفعمون بالعواطف والانفعالات ومتهتكون جائعون جسداً وروحاً مهجوسون بالمرأة والجنس، وهم متخلعون سلبيون فصاميون صعاليك، يعبرون عن عمق حرمانهم وإلحاف حاجاتهم الروحية والغريزية، أما المرأة فتحضر بصورة الأم المقدسة والفقيرة المستلبة والمضحية وفي دائرة الوعي الذكوري المفعم بالكبت والحرمان وتندرج في هواجس الكتابة كتعبيرات متباينة عن هشاشة البنية العقلانية وغلبة الانفعال وغرائبية السلوك، وقد تؤهل بعض شخصيات قصصه لفضاء روائي أوسع من فضاء القصة”. ص213/214

لغة مصطفى القصصية وأسلوبه

 يرى الناقد أن لغة القاص مطواعة لينة تساعده في تيسير سرده متعدد الأشكال سواء في قصِّه العفوي أم في تحليقه البعيد خلال رسمه لصوره المدهشة أم في ملاحقته للحدث الدرامي وتعقيداته فيقول: “يبني الكاتب مصطفى عالمه القصصي، ويصون بنيتها الداخلية من الهشاشة والتصدع، إنها لغته جوهر تجربته، بل هي ذاته في مجابهة الوجود، وهي نابعة أيضاً من إدراكه أن القصة هي لغتها، قبل أي شيء آخر، بذا يغدو الكلام عن سلامة لغة الكاتب وغناها وتنوعها وتعدد دلالاتها وانتخابها مفردات وجملاً وتمتعها بالدينامية والمرونة اللازمتين للتوالد في لحظتها السردية واحتفائها بالصور المفعمة بالمشاعر والأحاسيس والتكيف مع متطلبات السرد” ص214 

أما حديثه عن الأسلوب فقد وصفه بالرشاقة والسلاسة وأخذ القارئ إلى نهايات قصصه بشوق ومتعة..! وأشار الناقد إلى القيم الجمالية فرأى: “أن الواقعية في السرد القصصي واقعية تخييلية، تتمظهر في لغة التعبير والتصوير والتمثيل والمنولوج والديالوج وعبر المزج بين المعرفي/التنويري والمعرفي/الجمالي ليمنح كل منهما شريكه تسويغاً وقيمة تسويقية متبادلة، فقد اتسعت الواقعية في أسلوب كاتبنا لأشكال وأساليب متعددة ومتداخلة، وبنجاح هذه القيمة التبادلية حقق الكاتب نجاحه في هذا الجنس الأدبي الأشد حساسية وتطلباً” ص 212

خاتمة

أخيراً قد لا تفي هذه العجالة في تغطية كتاب بلغ عدد صفحاته نحو مئتين وعشرين صفحة من القطع المتوسط وحوى بين دفتيه ست مجموعات قصصية ضمت مئة واثنتين وعشرين قصة قصيرة ومئة وتسعاً وسبعين قصة قصيرة جداً.. ويمكن القول إنها دراسة منهجية بدأت كما أشرت بعناوين القصص المدروسة، وعرضت للقارئ بإيجاز محتوى كل قصة ومسار حدثها الرئيس، لتتناول، بعدئذ، جمالياتها الفنية لغة وأسلوباً وصوراً وفكراً والتقطت أهم ما يوجع المجتمع السوري إن في زمن السلم أم في زمن الحرب، وفي ضوء فكر مستنير لقاص متوقد الذهن شفيف الحساسية مشغول بهم إنساني مقيم..!  

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني