fbpx

حفيد المدعو سارس يعيدنا إلى الكتاب الورقي

0 1٬489

ثمة كثيرون، من الأصدقاء حولنا، لطالما كنا نسألهم، منذ بدايات العقد الأول من الألفية الثالثة، عن الكتب الأخيرة، التي قرؤوها، ولطالما كانت أجوبتهم جميعاً، متشابهة، متناسخة، مكررة للمضمون، وللذرائع ذاتها التي صرنا نستظهرها:
لم نعد نقرأ؟
هذا الاعتراف الخطير قد يكون عادياً إن سمعناه، من بعض هؤلاء الذين لم يقرؤوا يوماً ما، خلال عقود حيواتهم، خارج مناهجهم الدراسية، وكثيراً ما كانوا يندهشون من أمور هؤلاء الذين لا شغل لهم غير اقتناء الكتب، وقراءتها، وتبادلها، والحديث عن عناوينها ومضامينها، ومؤلفيها، وما علاقتها باللحظة، أو الغد، أو حتى الأمس، بل عما فيها من معارف ومعلومات ثمينة، تكاد توجد حتى في الروايات، وليس أدل على ذلك إلا رواية “الساعة الخامسة والعشرون لقسطنطين جيورجيو” – مثلاً – التي تتحدث عن لحظة الانتقال إلى اللحظة الصناعية، وم اتتركه من أسئلة عن تأثيرات ذلك على واقع وفكر الإنسان. هذه الرواية التي يمكن اعتبارها – وبعيداً عما فيها من عالم الحروب والمعتقلات والتعذيب وثقافة الكراهية – تحاكي لحظة ولوجنا العالم الافتراضي، وهوما يمكن استقراؤه من قبل الناقد الحصيف، وهو ما يقاس على أعمال أخرى كثيرة لكثيرين من الروائيين العالميين والمحليين، إلى درجة أن أعمالهم هذه، وبعيداً عن إثقالها المعلوماتي – تكاد تكون مرجعاً في التاريخ والاجتماع وحتى العلوم – وهو ما يمكن قبوله، إن كان ضمن إطار لعبة مشوقة، مفيدة، ناهيك عن بقية عناصر هذا العمل الإبداعي.
وإذا كنت قد تناولت شكلاً إبداعياً، فهناك – في المقابل – أشكال أخرى في مجال السرد الأدبي والشعر، ناهيك عن النقد، أو الدراسات والبحوث، بل والعلوم. كل هذه الأشكال والأجناس هي ممكنة السيح في عوالمها من قبل القارىء، ولطالما كانت لها جاذبيتها، قبل أن ينقض عليها العالم الافتراضي ويتم استبدال الأداة القرائية التاريخية: القراءة، بما هو افتراضي، عبر الإبحار في العالم الأزرق، والاكتفاء بالرّذاذ المعلوماتي – غالباً – بدلاً عن الهطل المألوف، وإن كانت غوايات هذا الرذاذ الأزرق تقود إلى الغرق الذي يشطُّ بالمبحر في ذلك العالم البديل، بعيداً عن أسئلة لحظته، ويدخل في دوامة كبيرة، تجعله يكتفي بالصورة والماء الإلكتروني، بدلاً عن نكهة الحبر الذي لطالما كانت له غواياته!
وإذا كانت الدراسات والاستبيانات التي أجريت، من خلال سبر آراء شرائح كثيرة، من الناس، حول علاقتهم بالكتاب – ونحن هنا أمام العلاقة مع القراءة العريقة – توضح أن حالة اغتراب عظمى حدثت مع الكتاب، وإن القارىء الجديد المواظب على الإلكتروني في غياب الوعاء الورقي هو قارىء تقليدي، في الأصل، ومن يقرؤون الكتاب الورقي أصبحوا نادرين، بل ومتون الكتب الورقية – إلكترونياً – على نحو مطول، ولعل الرواية تأتي في مقدمة الكتب المقروءة، ضمن دائرة القراءة، وذلك لأسباب عديدة، لا مكان لشرحها هنا.
ما أريد أن أقوله إننا، وضمن محيط الأسرة، بتنا في فترة الحجر الصحي نتبادل ما لدينا من كتب ورقية، وبات أبناؤنا وبناتنا – الطلبة – الذين وجدوا هامشاً من الوقت، ولو بسيطاً – بسبب استمرار محاضراتهم وواجباتهم افتراضياً – باتوا يقبلون على قراءة هذه الكتب، وهو ما حدث مع أكثر من أسرة أعرفها، بل ثمة أصدقاء باتوا يسألوننا عن عناوين كتب ما، وكنت أمازحهم:
صفحات وأغلفة الكتب الورقية تحتفظ بفيروسات كورونا إلى وقت طويل!
وكأنني بكورونا، ومن ضمن مراجعاته المفتوحة، على الجهات كلها، والتي تعنى بالتفاصيل جميعها، بات يعنى بالكتاب الورقي، يشدنا إليه، لنملأ به أوقاتنا، ضمن هذه الفسحة المتلاطمة من الزمن، بعد أن وجد كثيرون من بيننا، لاسيما هؤلاء الذين ليس لديهم ما يملؤون به فراغهم، ليعيد بذلك الاعتبار إلى هذا الكتاب، بعد عقدين كاملين من هجرته!
ترى، هل ستترك هذه المحطة الفاصلة، بين مرحلتين من حياتنا: ما قبل كورونا وما بعده، ونأمل ألا يطول، أثرها، وتعيد للكتاب فعالية سحره، وجاذبيته التي تشدنا إليه، بل وتبهرنا به، وتجذبنا إليه، كما كنا نفعل من قبل، لاسيما أن شراء الكتاب، لايزال مستمراً، وإن بنسبة لا ترتقي إلى المطلوب، ولعل من بين مشتري الكتاب من يتعاملون معه كقطع ديكورية ، نتيجة نوستالجيا إلى عصر القراءة الورقية. عصر هيمنة الورق!

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني