fbpx

حرب الرقابة في سوريا

0 387

في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حدثت معي حادثة، عندما تقدمت لرقابة الكتب بمخطوطي القصصي الأول وكان عبارة عن مئة وخمسين ورقة من الحجم الوسط. وبعد فترة دامت أكثر من شهرين من الانتظار، جاءت الموافقة على مجموعتي القصصية إنما ممسوخة ولا تتجاوز الستين ورقة.

ومن ثم عرفت أنها من فعل الرقابة وأية رقابة.

في المجموعة القصصية الثانية لم تحذف لي الرقابة أي حرف لأنني كنت شرطياً لذاتي فكانت من أردأ ما كتبته. وفيما بعد وبمجموعتي الثالثة قتلت الشرطي الرقيب القابع بداخلي وحصدت مجموعتي القصصية الكثير من الجوائز والترجمات.

هذا الجزء المجزأ من معاناة المبدعين في سوريا والكثير من الدول العربية.

حتى أنه في النصف الأول من القرن العشرين أيام حكم الاستعمار والنصف الباقي لحكم الثورة الوطنية (مصر) تبين أن المرحلة الأولى كانت أرفق بالكتّاب فالراصد يجد ويسجل ثلاث وقائع تمت فيها مصادرة الرأي والإبداع منها واقعة كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) وكتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) وللتنويه شيخنا الرازق كان مع رفاعة الطهطاوي من أوائل المدافعين عن حق المرأة وطرح مواضيع ساخنة لم تطرح حتى الآن. أما الواقعة الثالثة فكانت مصادرة كتاب أنور كامل (الكتاب المنبوذ) عام1930.

أما النصف الثاني (1959) فتم منع (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، وكتاب (نقد الفكر الديني) لصادق جلال العظم، ومجموعة قصص ليل بعلبكي (سفينة حنان إلى القمر)، ومصادرة أعمال نصر حامد أبو زيد وتفريقه عن زوجته عام 1993، ومصادرة رقبة نجيب محفوظ، وهدر دم المفكر والصديق الشهيد فرج فودة في النصف الأول من التسعينيات. كما جرت مصادرة (من هنا نبدأ) لخالد محمد خالد، و(الحسين ثائراً وشاعراً) لعبد الرحمن الشرقاوي، و(الفتوحات المكية) لابن عربي، و(باب الفتوح) لمحمود دياب، وقصيدة (أنت الوشم الباقي) لعبد المنعم رمضان، وديوان (آية جيم) لحسين طلب، ورواية (مسافة في عقل رجل) لعلاء حامد، و(فقه اللغة العربية) للراحل لويس عوض.. بالإضافة للعشرات من الكتاب الذين زجوا في المعتقلات العربية، هنا تذكرت أغنية (أنا يوسف يا أبي) لمرسيل خليفة.

وما زلنا نطرب على أنغام صباح فخري شاديا “إنا أعطيناك الكوثر”.

صحيح أن الاستعمار أوقف ومنع ثلاث كتب فقط.. لكن ربما ذلك لأن بقية الكتاب لم يتجرؤوا على النشر.

مسحت عصفورتي لهاثها عن زجاج المرآة وكتبت بذيلها: يا للمفارقة.. كتاب الصادق النيهوم (إسلام من ورق) إصدار دار الريس يمنع في لبنان وينشر في سوريا.

الريس يصرخ عبر الناقد: “سوريا أقل الدول العربية منعا لمنشوراتنا”. 

هذا ما حدث في لبنان، أما ما حدث في دولة نشر الثقافة شبه المجانية دولة (عالم المسرح) و(عالم المعرفة) و(العربي) التي تقدم كاتبها أحمد البغدادي إلى المحاكمة، كذلك الكاتبتان ليلى عثمان وعالية شعيب، الأولى قاصة والثانية شاعرة، وما زال البحث جار عن الشاعرة الأردنية زليخة أبو ريشة.. وما زالت ولائم حيدر حيدر تقدَّم على طبق من فضة لحكام الثقافة العربية.

ورغم ذلك في مصر والمغرب ليس لديهم رقابة على الكتب إلا أن الأمر في مصر موكل إلى القضاء. وهنا تدخل الكاتب والمفكر المصري صاحب كتاب (ثقافة كاتم الصوت) موضّحا أن المشكلة هي أن القضاء في مصر يستند إلى أسس تشريعية توصله إلى النتائج التي يهدف إليها المتطرفون.

ومازلنا أمة تردد قال ابن تيمية وقال لينين.. في حين أننا لم نقل شيئاً.

صحيح أنه هنا في سوريا لا يتم منع الكتب كما في مصر إنما يتم ذلك بطريقة حضارية (الموت المخدّر)، إما بواسطة إبر وزارة الثقافة التي تصدر وتمنع كيفما تشاء أو.. برعاية!! اتحاد الكتاب العرب..  المنع بالجملة والحمل حسب الولاء.

أما الرقابة من الجانب الاقتصادي فحدث ولا حرج ومن السبعينيات حتى الآن وكل يوم تطالعنا الصحف الرسمية وشبه المعارضة، أي صحف ما تسمى أحزاب الجبهة من فضائح في الفساد الاقتصادي من سوء صناعة الخبز والأسمنت والمعلبات وغيرها من فساد لا حسيب له ولا رقيب، ومنها سابقاً انهيار سيد زيزون وغيره من الجرائم الاقتصادية وما رافق ذلك من محاسبة لفاسدين صغار الذين هم عملاء لرؤوس كبيرة.

وكلب الأمير… أمير.

أما عن الرقابة الاجتماعية فحدث ولا حرج من عسكرة المدن إلى تشويه الريف إلى حزام الفقر الذي يحاوط المدن الكبيرة وما تسمى العشوائيات فنجد الرقابة هنا من الدولة وجيشها من المخبرين يساعدون على نشر ثقافة الفساد أي إفساد ما يمكن إفساده والكل فاسد وتحت الطلب، حسب قول الراحل الطيب تزييني.

من عقود حتى الآن، مازال الصراع مستمراً بين الرقيب و(المرقوب)؛ الرقيب يأخذ دور الآمر الناهي والمرقوب، أي المواطن يأخذ دور المتهم دوماً فنجده في حالة صراع كالمطرقة والسندان.. والمتهم محكوم حتى لو تثبت براءته.

أما الرقابة من الجانب السياسي التي تعتبر الأخطر على السوريين، حيث الكل متهم وتحت الطلب وما رافق من تقييد للحريات ومصادرة أموال بعض السوريين تحت شعار “من أين لك هذا؟”. ليحدث تناكح بين العسكر والتجار، وبدوره أنتج ما فيات لا مثيل لها بالعالم.

وتحول الرقيب إلى مخبر والمخبر تحول إلى مقرر والمقرر تحول إلى المنفذ، بالإضافة إلى زج الكثيرين بالمعتقلات من أحزاب وأفراد وتغييب العمل السياسي والمدني بسوريا.

الرقابة وتعني أن رقبتك تحت مطرقتهم، وعلى المواطن تحمل ضربات مطارقهم على سندان رقبته الذي أكله الفقر والحرمان وصدئ من قلة الحراك.

ومن جانب آخر هناك جيش من رقابة الحدود كالجمارك، وما تم من تهريبه من المواد التموينية وغيرها لداخل البلاد فكان حاميها حراميها.

ومع بداية الحراك السوري وحتى الآن لوحظ فتح الإنترنت من وسائل التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتوتير وغيرها، لنكون كلنا تحت المراقبة الإلكترونية و.. الطلب و…

أذكر في طفولتي وشيطنتي مع رفاقي، كنا نكسر البيضة النيئة ونرفع صوت المسجل للموسيقى أو الأغاني أمام وكر الحية فتخرج الحية من وكرها عندما تشمّ رائحة البيض وتسمع الموسيقى ومع خروجها من وكرها وللأسف كنا نقوم بقتلها.

وهذا ما حدث للكثير من السورين حيث أخرجونا من أوكارنا من خلال الإنترنت والفيسبوك وتم ما تم من رقابة إلكترونية عليه وعلينا.

ومن راقب الناس مات هماً.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني