جسر الرئيس والعفو المزعوم.. من منصّة انتحار إلى ساحة انتظار
في قلب العاصمة دمشق شُيّد جسرُ الرّئيس حافظ الأسد ليكون عقدة مواصلات حيويّة، وصلة وصل بين أحياء دمشق إن لم نقل خطّاً فاصلاً بين أنماط الحياة المتباينة فيها.
في منطقة جسر الرئيس تُطالعنا صورةٌ مصغرّةٌ لما جرى ويجري في سوريّة، في عهد الأسدين الأب والابن.
وجوهٌ منهكةٌ تبحث عن لقمة عيشٍ بمهمةٍ شبه مستحيلةٍ، رجالٌ ونساءٌ يتراكضون لحجز موطئ قدمٍ واحدةٍ في وسيلة نقلٍ تغصُّ بركابها، بسطاتّ متفرّقةٌ ببضائعَ رديئةٍ شحيحةٍ مهددةٍ من قِبل المحافظة لتشويهها الصّورة الجّمالية للمكان، وما ينجو منها يستولي عليه مخبرو الأفرع الأمنية المتنافسين لنقل الخبر لحظة حدوثه وربّما قبل حدوثه.
لصوص، متحرّشون، متسولون ومجانينُ حربٍ يتنافسون للسّيطرة على سيادة المكان والزّمان، وفي الأعلى عالمّ آخر ووظيفة أخرى لجسر استحقّ لقب جسر الموت بعد أن تحوّل في السنوات الأخيرة لمنصّة انتحار.
مجدّداً يظهر اسم جسر الرئيس ليتصدّر مواقع التواصل الاجتماعي بوظيفته الجديدة كساحة انتظار للآلاف من أهالي المعتقلين والمغيّبين قسريّاً، الذين تجمّعوا بعد أن أصدر رأسُ النّظام عفوَه المزعوم الذي أحيا آمال الآلاف بلقاء أبنائهم بعد سنواتٍ من الفقد لذلك كان التّجمع تحت جسر حافظ الأسد حيث تمرّ السّيارات القادمة من السّجن الأحمر سيء الصيت وسيارات الشّرطة العسكريّة التي أمِلَ الأهالي بأن تكون قد غيّرت مهمتها بإرجاع أبنائهم بدلَ أخذهم.
ما إن تتوقف إحدى تلك السّيارات حتى يتراكض حولها المنتظرون متلهفين لسماع خبر يشفي حرقة صدورهم مطلقين ابتهال (يارب) مباغتين المفرَج عنه بصورة مفقودهم سائلين (شفتو شي؟).
ليتفحّص العائدُ من الموت الصّور بذاكرته المنهكة إن وجدتْ، مسترجعاً وجوه مَنْ مرّوا عليه بين جدران سجنه.
أزعج تجمّع الأهالي النّظام فلا صورٌ لبشّار تلوح بالأفق ولا هتافاتٌ تمجّد القائد إنّما هو تعرية لكذبة النّظام حول المعتقلين الذين أنكر وجودهم في زنازينه، لتسارع دوريّات الأمن الجّنائي وأمن الدّولة والشّرطة العسكرية إلى تفريقهم وتوّعدهم باللحاق بأبنائهم إن عاودوا التّجمع.
لذلك دعت وزارة عدل النّظام الأهالي، إلى العودة لمنازلهم مؤكدةً عدم وجود مكان لتجميع المعتقلين، وأعربت عن ذلك القاضي زاهرة بشماني رئيس محكمة قضايا الإرهاب في دمشق معلنةً أنّ ما حصل من تجمع الأهالي لاستقبال أبنائهم (ليس من الأصول).
لذلك عمد النّظام إلى تجميع المفرَج عنهم في مباني المحافظات وتصويرهم أثناء إنهاء إجراءات الإفراج موجِّهين رسالةَ شكرٍ للقائد الذي أصدر عفوه عنهم مردِّدين (بالرّوح بالدّم نفديك يا بشار) إن بقي في عروق مَنْ قضى بسجونه دماءٌ ليفتدوه بها.
لماذا الآن؟
أثار العفو الرئاسي المزعوم جدلاً حول توقيت صدوره، إذ أنه جاء بعد أن نشرت صحيفة الغارديان ومعهد نيولاينز مقاطع لمجزرة التّضامن، حيث قام عناصر تابعين للنظام بتصفية العشرات بطريقةٍ وحشيّةٍ مبتكرة وبسلاسة تُبدي خبرتهم واعتيادهم على القيام بتلك المجازر.
فكان العفو بعد المجزرة ليردم رأس النظام حفرة العار في التضامن مدّعياً فتح أبواب سجونه ليُخرج غيضاً من فيض المعتقلين، فقد وصل عدد المفرج عنهم ما بين 290 إلى 325 مع الملاحظة إلى أنّ معظم المفرج عنهم اعتُقلوا ما بين 2018-2021 مع أعدادٍ قليلةٍ تمّ اعتقالهم مع بداية الحراك الشّعبي، بالإضافة إلى أنّ غالبية المفرَج عنهم موقوفون بتهم جنائية ولا علاقة لهم بالثورة السّورية.
مع العلم أنّ عدد المعتقلين حسب الشّبكة السّورية لحقوق الإنسان لا يقل عن 130 ألف معتقل منذ بداية الحراك الثّوري.
بالإضافة إلى سعي النّظام لاستغلال ملف المعتقلين بهدف تلميع صورته أمام القوى الدّولية الفاعلة مع بداية مرحلة تفاوضيّة جديدة وخاصةّ بعد مقاربة بيدرسون خطوة بخطوة ليخطو النظام خطوة العفو الوهمي منتظراً مكافأته بخطوات.
والجدير بالذكر أنّ صدور العفو سبق مؤتمر بروكسل للمانحين فكان إطلاق المعتقلين بمسعى من النظام لإقناع الدّول المانحة بتجاوبه مع الحل السّياسي.
ويبقى السبب الأهم هو تمرير رسالة ترهيبية جديدة للسوريين مفادها أن “أنا هنا” صاحب الكلمة والقرار والمبادرة ومُمسك بزمام الأمور، أفتحُ أبوابَ السجون متى أشاء وأُدخل إليها مَنْ أشاء.
والدليل على ذلك عدم تقديم النّظام لأيِّ تنازلاتٍ تخصُّ المعتقلين خلال العمليات التّفاوضيّة رغم الجّهود الدّولية والأممية وضغط المنظمات الحقوقية.
فملف المعتقلين هو الأكثر إشكاليّة منذ اندلاع الثّورة وذلك لما له من أبعادٍ إنسانيّةٍ ونظراً للطريقة التي أُدير بها، إذ اعتبرته المعارضة ملفاً فوق التّفاوض ولم تحرّك به ساكناً. واعتبره النّظام مصدر كسب فقد وصل حجم الأموال التي حصل عليها النّظام من عمليات ابتزاز أهالي المعتقلين لمعرفة أخبار أبنائهم إلى 900 مليون دولار بين عامي 2011و2012 حسب رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا.
واستمرّ الابتزاز حتى بعد صدور العفو من خلال بعض السّماسرة الذين يبيعون الأوهام للناس وذلك بتقديم عروض كإدراج أسماء أبنائهم بقوائم العفو التي لم تصدر أصلاً وذلك إمعاناً من النّظام بإذلال الأهالي واستغلالهم ماديّاً. فضلاً عن المحامين المرتبطين مع الأفرع الأمنية والتي تصل فاتورتهم إلى عشرات الملايين.
خرج المعتقلون المفرج عنهم موفوري الحظ بأجسامٍ هزيلةٍ وعظامٍ بارزةٍ ووجوهٍ شاحبةٍ، بعاهاتٍ نفسيةٍ وجسديّةٍ مستدامة.
خرج بعضهم جسداً خاوياً تاركاً عقله بين جدران سجنه، ليضحك تارةً ويبكي تارةً أخرى، ليستيقظ مردِّداً شعار الحزب صارخاً (أمرك سيدي).
انتشرت صورُ المعتقلين وذويهم المنتظرين على مواقع التواصل الاجتماعي فكانت مادّةً دسمةً للسخرية والاستهزاء من قبل مؤيدي النظام من خلال تعليقاتهم التي وصلت لحد الشماتة والتّشفي مع انتقادهم لمرسوم العفو وقبولهم به فقط لأنه صادر عن القائد الحكيم الذي يعي ما يفعل.
بمقارنة مخجلة تعود للذاكرة صورة المعتقلين الفلسطينيين الذين يخرجون من سجون الاحتلال بصحةٍ جيدةٍ وإطلالةٍ بهيّةٍ حاملين شهاداتهم الجامعية وربّما الدكتوراه التي تحصّلوا عليها في السّجن. لسنا هنا بصدد إسقاط صفة الوحشيّة عن الكيان الصّهيوني وإنّما إبراز الوجه الإجرامي للنظام الذي عجز حتى الاحتلال الاسرائيلي عن مجاراته.
في سجون النّظام ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، فيه يُعتقل المفكّر والعالِم والوطني، فيه يُسجَن رغيد الططري عميد الأسرى السوريين الذي جاوزت فترة اعتقاله أربعين عاماً وعبد العزيز الخيّر والدكتورة رانية العبّاسي مع أطفالها الذين شبّوا بين جدران السجون، وفيه يُعتقل الطالب المسيحي ميخائيل رياض الياس بتهمة الانتماء لتنظيم إسلامي. باختصار هي سوريّة الأسد التي تطلق المجرمين وأصحاب السّوابق وتمنحهم مراكز حسّاسة وتعتقل المفكرين والشّرفاء.
لعنه الله على الظالمين … مبدعة كاتبنا العظية ندى ابوخضر