fbpx

ثقافة الهزيمة والمقاومة: بين الحقيقة والإنكار

0 34

ليس صحيحاً ما يقوله بعضهم من التعميمات حين يقررون أن “العرب لا يعترفون بالهزائم حين ينهزمون”. ففي عام 1967، اختلفت الآراء حول كل ما يتعلق بالهزيمة: من حيث حجمها، وطبيعتها، وحتى المقترحات للخروج منها على سبيل المثال، اعتبر البعض أن السبب يكمن في “إلحادنا”، بينما رأى آخرون أن السبب يكمن في “إيماننا”. كما كان هناك من ربط العطب بالاشتراكية الناصرية والبعثية، ومن اعتبر أن المشكلة تكمن في أن تلك الاشتراكية لم تكن حقيقية بل “رأسمالية دولة بيروقراطية”. وفي الوقت الذي اختار فيه بعض النقاد هجاء “ثقافتنا”، ذهب آخرون إلى إلقاء اللوم على “أنظمتنا الديكتاتورية” أو “جيوشنا”. مع ذلك، كان القاسم المشترك بين الجميع تقريباً هو الإقرار بالهزيمة، حتى الأنظمة العسكرية التي حاولت التلاعب بمعنى الهزيمة وأمعنت في تأويلها بشكل خاطئ، اعترفت في النهاية بوقوعها.

اليوم، لا يوجد أي إقرار بالهزيمة كما كان في السابق. حتى أولئك الذين يستخدمون مصطلحات مثل “نكبة” و”مأساة” لوصف ما يجري، نراهم بعد بضع عبارات يتحولون للحديث عن “نصر مبين”، مشيرين إلى صاروخ سقط على تل أبيب أو مواجهة مباشرة أسفرت عن قتلى إسرائيليين.

ورغم أن هذا قد يسهم في إبطاء تقدم الغزاة أو رفع كلفته، إلا أنه لا يغير إطلاقاً من الاتجاه العام الذي لا يزال يحمل براهينه المؤلمة.

الموقف المذكور، الذي لا يكتفي بنفي الهزيمة بل يتوجه للجزم بالنصر، يحث على سؤال يتجنبه تواطؤ ثقافي شامل، وبالغ الإضرار: متى يقرّ طرف ما بهزيمته؟ أو بصياغة أخرى: هل للهزيمة معيار يمكن القياس عليه؟ هل هو عدد القتلى؟ حجم الدمار؟ تهديم المدن والقرى؟ احتلال الأراضي؟ مدى التهجير والنزوح؟ المقومات الاقتصادية للصمود؟ قوة الحلفاء الخارجيين وضعفهم؟ مدى التماسك المجتمعي الذي يستند إليه المقاتلون؟ حياة القادة العسكريين والسياسيين وموتهم؟ الآلة التقنية المصاحبة للحرب؟ خطوط الإمداد ومخازن الأسلحة ومصانع إنتاجها؟

إنّ اعتماد أيّ من هذه المعايير، أو بعض منها أو كلها، يثبت فعلاً أنّ قوى الحرب في غزة ولبنان قد مُنيت بهزيمة، والدعوة إلى إعلانها ليست «ترويجاً للهزيمة» أو «إشاعة لليأس». فليس من الصعب إطلاق التهم وتشويه السمعة لحرف النقاش عن مساره وحجب الحقائق التي تروج بنفسها. والواقع أنّ هدف المصارحة بالحقيقة ليس حبّ الحقيقة في حدّ ذاته، ولا حتى الرغبة في وقف الهزيمة عند الحدّ الذي وصلت إليه. فقبل ذلك، هناك خطر احتلال الأرض، سواء في لبنان أو غزة، وما يترتب عليه من تعقيد أشكال التخلّص من الاحتلال وازدياد مصاعبه. وهناك بالطبع البشر الذين يدفعون ثمن هذا الكتمان، الذي يطيل في معاناتهم موتاً وتجويعاً وتهجيراً وإفقاراً وذلاً ويُفترض بمن يزعمون حرصهم على «أبناء شعبنا» أن يتوقفوا عند هذه المسألة، وأن يفعلوا ما في وسعهم لوقف معاناة استثنائية يسببها جيش متوحش لا يرحم وليس هناك من يردعه.

ما نُقصف به، لا يعكس سوى انعدام الحساسية التامّة تجاه المدنيين الذين يُحذفون تماماً من حسابات الربح والخسارة، فيما يتمّ تركيز كلّ الاهتمام على النصر والصمود. وهذا ما لا يُستعان عليه بوقائع بل بكليشيهات بعضها دينيّ في شكل نصوص منزوعة من سياقها التاريخي، وبعضها الآخر من بقايا «التحرّر الوطني» و«حرب الشعب طويلة الأمد».

«لست مهزوماً ما دمت تقاوم»، إلا أن التجربة الحية التي نعيشها تنفي هذه التصورات الخطابية الساذجة عن المفاهيم، بما في ذلك مفهوم المقاومة. ففي ظروف معينة، قد ينتهي الأمر بأن يكون الشخص مهزوماً بالضبط لأنه اختار المقاومة، وهذا ما حدث، على سبيل المثال لا الحصر، مع تشي غيفارا، إمبراطور المقاومين، في الكونغو وبوليفيا.

لقد جاء الانتقال من الاعتراف بالهزائم إلى رفض إعلانها ليوازي الانتقال من ثقافة الدولة، رغم عيوبها ونواقصها، إلى ثقافة الميليشيا. فالدولة ليست مجرد قوة عسكرية، بل هي شبكة من الوظائف والمؤسسات والخدمات التي لا تختفي بمجرد هزيمة جيشها. أما الميليشيا، فهي بالأساس قائمة على السلاح، وتقتصر أدوارها الأخرى على ما يمكّنها منه هذا السلاح من السيطرة.

ما يعنيه ذلك هو أن إعلان الهزيمة، أي هزيمة السلاح، يعني موت كل شيء آخر ومواجهة واقع مرير، يتمثل في سيولة الحياة الطبيعية بلا سلاح، ولا بد أن تشعر الميليشيات بنقص عميق، مفاده أن «شرعية المقاومة» لا تعوّض وحدها فقدان كل شرعية في عالم طبيعي. وبالتالي، فإن المقصود فعلياً بعبارة «ولّى زمن الهزائم» هو أن زمن الاعتراف بالهزائم قد انتهى، فلم يعد هناك ما يُعرف أو يُوثّق أو يُعلن عنه مما يخالف قواعد العالم السري.

في ثقافة الميليشيا، حيث يُعتَقَل القانون والمعرفة في سجن الحرب، يتضاءل الكون خلف الذات الميليشيويّة إلى مجد أو فناء، وفي هذا السياق، يمتلئ القاموس بالعبارات مثل «العار»، «الرجولة»، «الشرف»، «الكرامة»، و«أنزلناهم إلى الملاجئ»، و«فرضنا عليهم التعتيم»، بينما يتحول البشر إلى جثث مؤجّلة فيظهر إعلان الهزيمة كإخلال لا يُحتمل بتلك المعايير وكل ذلك يسبق الصمت الذي يلف قبورنا، مشكّلاً شهادة على غيابنا.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني