fbpx

ثقافة المواجهة وسياق التطبيع

0 377

التطبيع يعني جعل غير المألوف مألوفاً. جاء في المعاجم العربية: طبّعه على الشيء: عوّده إيّاه. وطبّعه: دنّسه أو نجّسه. وطبّعه مبالغة طبعه التي تعني عوّده ونشّأه على شيء غير معتاد.

وجاء في التنزيل العزيز: {طبع الله على قلوبهم} أي ختمها وأغلقها فلا تعني خيراً.

وطبع الدابة: حملّها ما لا تطيق. وطبع الشيء: دنّسه وشانه. وانطبع: مطاوع طبعه. فمن انطبع أو تطبّع تخلّق بما أريد له بما أراد، أي: رضخ رضوخاً مطلقاً للآخر. والتطبيع حالة يفرضها الأقوياء على الضعفاء. فهل نقبل السلام الذي يصنعه قرار سياسي؟

القرار لا يصنع سلاماً بدون الخيار، والخيار الحقيقي في حالة السلام مع إسرائيل يفتقر إلى أبسط شروط وجوده في وقتنا الحاضر.

والتغيير الذي تنتجه مراكز القوى سيبقى سطحياً، لأن السياسة العربية الجديدة، ممّا يفرض عليها السلام المزعوم من غير أن تقبله. ومع ذلك.. ولـذلك فهي تتصرّف وفـق معطيات الظروف والإمكانيـات الراهنة، وهي – بذلك – تمارس فنّ الممكن.

والثقافة ليست معنيّة بإرضاء أحد، ولا تتجوّل إلاّ في ساحة الاستراتيجيّ بعيداً عن المصالح الآنيّة التي قد تتطلّب تكتيكاً سياسيّاً خاصّاً.

في هذا الإطار الثقافيّ يحقّ لنا أن نتساءل: هل يعني أن يطبّع الفلسطينيّ مع عدوّه التاريخيّ داخل أرضه سوى الرضوخ والتدجين؟

وهل خيار السلام خيار عربيّ حقّاً؟ كيف، ونحن نعيش في ظلّ أقطار لا يجمع ساستها إلاّ المجاملة، وشعوبها ممنوعة من الإعراب عن نفسها بحرّيّة؟

وهل يمكن للنظام العالميّ الجديد أن يملي، خلال سنوات، إرادته على الشعوب؟

احتلّ الصهاينة فلسطين منذ أكثر من سبعين عاماً، ولا يزال صوت الشعراء – داخل فلسطين وخارجها – مدوّياً يرفض الاحتلال.

الأطفال يقاومون المشروع الصهيونيّ، مع أنّهم ولدوا ليجدوا أنفسهم في ظلّ احتلال يفرض مناهجه التربويّة والتعليميّة والإعلامية بقوّة السلاح، ويحاول أن يزيّف حقائق التاريخ والجغرافيا.

فمن أين عرفوا عدوّهم؟

إنّه الفلسطينيّ الجدّ، والفلسطيني الأب، والفلسطينيّ المثقّف.. إنّها الأمّ التي أرضعتهم حليب الدفاع عن الحقّ العربيّ المشروع.

هؤلاء جميعاً يتناقلون ذاكرة الأرض، وذاكرة الحقّ، بالرغم من التعذيب والتهجير والإبعاد الذي يمارسه الصهاينة.

فهل يمكن لقرار سياسيّ عربيّ أو غير عربيّ، أن يمحو العداء التاريخيّ للمغتصب من ذاكرة المواطن العربيّ ووجدانه؟

وإذا رضخت السياسة الغربيّة لظروف ومعطيات قاهرة، هل يمسي المثقّف ملزماً بالرضوخ لهذا الأمر التكتيكيّ؟

الثـقافة تُعنى بحفظ الأمّة، وبالدفاع عن ثوابتها وحقوقها، ولا علاقة لها بالسلام المزعوم، السلام المبطّن الذي أرادت به إسرائيل جعل (عرفات ومن تبعه) عصا تشلّ حركة المقاومة. ويزعم بعض العرب أنّ السلام بداية زرع قوّة ضاربة داخل الأرض المحتلّة، فهل يصدّق زعم الطرفين، أو أحدهما، أم نبقى نراهن على الحرب الثقافيّة؟

الثقافة ترى أنّ التطبيع سيقودنا إلى تشكيل عربيّ يـشابه دويلات أمريكا اللاتينيّة. وشمعون بيريز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) يؤسّس لسوق شرق أوسطيّة تكون إسرائيل نواتها.

وللأسف فقد استمعت إلى إحدى المحاضرات، تبنّى فيها المحاضر تصوّرات بيريز، وحاول إيصالنا إلى حالة تيئيس كاملة، وكأنّ ما يطرحه الآخرون هو مقاومة الأحلام الإسرائيلية في ظلّ النظام العالميّ الجديد.

إنّ الثقافة فعل استراتيجيّ يدافع عن مقوّمات الأمّة ويعمل على نهوضها، وإذا حصر الحديث –هنا – في مقاومة الــتطبيع، فلأننا نلاحظ تهافتاً عربيّاً عليه من سياسييّن ومثقّفين وتجاّر.

في حين أنّ تلك الدعوة ترى الصراع العربيّ/الصهيونيّ صراع وجود، وليس نزاعاً على حدود، ولابدّ من إلغاء مشروع الصهاينة، لأنّه نقيض لتقدّمنا وحضورنا وتحريرنا.

والتطبيع يجعل الصراع صراعاً على حدود، ويمكن تذويبه بالتدريج عبر الحوار والتسوية السلميّة.

ولكن أيّة تسوية، لأيّ طرق سلميّة، وأيّ حوار؟ إن إسرائيل ليس لها جوار تاريخي ثابت فكيف نصفيّ خلافاتنا معها؟ وإسرائيل كيان دخيل مفروض بالقهر والعدوان، فكيف ننصاع له، والشعب العربيّ ما يزال يطارد ويصفىّ ويباد؟

بما أن الصراع مع الصهاينة مستمرّ، فالدعوة إلى ثقافة مواجهة التطبيع هي دعوة إلى تحقيق هدفنا في عروبة فلسطين. وهذا يعني رفض إسرائيل، ورفض التطبيع معها، لأنّه لا حقّ لها في وطننا.

إنّ التطبيع والتفاوض يمارسان بالقهر، والثقافة ترفع صوتها عالياً بموازاة السياسة لترفض ذلك كلّه، وترفض الهزيمة كما ترفض الإقرار بشرعيّة الاغتصاب.

التطبيع يغزو وجداننا، ويمارس تحت شعار الواقعيّة، وهي واقعيّة انهزاميّة: سياسيّاً وإعلامياً.

التطبيع يريد أن يزيل الحواجز أمام إسرائيل، فيمكّنها من التوسّع الشامل بغزو العرب، وتحقيق مشروع إسرائيل الكبرى، ثمّ إسرائيل التوراتيّة، والمدخل الاقتصادي هو المدخل الممكن الآن. وهذا بدوره يؤدّي إلى: 

أ- إلغاء كراهيّة العدّو ومبرّراتها، ويبدو الأمر وكأنّه ينبغي لنا أن نشفق على إسرائيل لأنّنا تأخّرنا في فهم مشروعيّة وجودها.

ب- تحويل جهد العرب من العمل على التاريخ والتربية والقوميّة والـحقوق إلى العمل على تشويه ذلك كلّه. وهذا يحدث خللاً فكريّاً وقيميّاً في أذهان أجيالنا، ويؤدي إلى انعدام الثقة وضياع المفاهيم، فتنتج تربية مريضة وعلاقات مريضة، وينشأ قبول بحالة العدوان. وهذا القبول يرسّخ الإحساس بالدونية وانعدام الكرامة، ويشيع ازدواجيّة الوجه والقناع في حياة الناس وفي علاقاتهم.

ج- خلق طفيليّة ماليّة تنشر قيمها بسرعة، وتصبح عنواناً لشرق أوسط جديد. طفيليّة تقدّم أنموذجاً فاسداً مفسداً، يقيّم الناس على أساس مريض. وهذا يشكّل حزاماً أمنيّاً لإسرائيل.

ويخطّط أيضاً لإقامة منطقة منتجعات سياسيّة، هي في حقيقتها أمـاكن للقمار والفساد والبغاء، تبـتزّ فيها أموال العرب. وليس صعباً عـلى إسرائيل ترويج أنـموذج (شايلوك) فتستعيد المال ممّن حصل عليه، من غير تعب، وبالطرق الطفيليّة المعروفة.

إنّ التطبيع، فضلاً عن كونه تسويغاً لإسرائيل وتسويقاً لها، عربيّاً، رسمياً وشعبيّاً، هو – في النهاية – انهيار شامل للبنية الفرديّة والجمعيّة التي قامت عليها تربية العقود السابقة ورفض لتلك التربية التي هدفت إلى تكوين إنسان مؤمن بقدرته على استعادة حقوقه.

إنّ ثقافة التطبيع تروّج لثقافة الاستهلاك والتسوية، وتريد منّا أن نتنازل عن حقّنا وعن هويّتنا.

وهذا يعني أنه علينا أن نجاهد عبر خطوط متوازية ترفض التطبيع مع إسرائيل، وترفض الانصياع للحكومات المستبدة التي تهيمن على العالم العربي، وتسعى لنيل الحرية والكرامة في ظل أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وتعمل على بناء الإنسان بشكل صحيح بعيداً عن العقد التي رسّختها أنظمة الطغيان التي ليست سوى خيوط أذيالٍ للاستعمار.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني