ترسيخ مفهوم المكونات ومعتقداتها في دستور سوريا الجديد
قضية كتابة دستور سوري جديد عبر مفاوضات اللجنة الدستورية التي تجري في جنيف ليست أمراً شكلياً، أو مجرد حبر على ورق، بل هي تُعدّ في النزاع بين قوى الثورة والمعارضة وبين النظام الأسدي أبرز محاور عملية التفاوض حول القرار 2254، وإحدى القضايا الأكثر إشكالية بينهما، وذلك لسبب أن تداعيات القضايا الدستورية يؤثر على واقع النزاع ومستقبل الحل السياسي في سوريا.
إن المجتمع السوري ليس لوناً إثنياً أو دينياً أو طائفياً واحداً، بل هو نسيج فسيفسائي تعايش تاريخياً عبر مكوناته المتعددة والمختلفة، وهذا يفترض وجود ثقافات متعددة، تصبّ في مجرى الثقافة الوطنية السورية.
تعدّد المكونات السورية ووحدتها الوطنية، يقتضي من الدستور السوري الجديد، أن يُقرّ بوجود هذه المكونات على أرضية وطنية، وليس على أرضية محاصصة طائفية أو دينية أو إثنية، هذا التعدّد لا تحرسه وتثبّته النوايا الحسنة بينهم، بل يتحقق ذلك عبر مبادئ فوق دستورية، تحفظ حقوق المكونات الوطنية، وتمنع هيمنة أي مكون كبير أو صغير على باقي هذه المكونات.
لقد أقرّت وثيقة جنيف الصادرة عن مجموعة العمل من أجل سوريا في 30 حزيران/يونيو عام 2012 أنه “يمكن يُعاد النظر بالنظام الدستوري والمنظومة القانونية، وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام”.
بينما صار القرار الدولي رقم 2254 الصادر في 18 كانون الأول/ديسمبر عام 2015 مرجعية متفق عليها، وإطاراً ناظماً لعملية التفاوض الحالية.
فقد جاء في القرار المذكور: “يُعربُ مجلس الأمن الدولي عن دعمه لعملية سياسية بقيادة سورية، تيسّرها الأمم المتحدة، وتحدّد جدولاً زمنياً وعملية لصياغة دستور جديد”.
وإذا تحدثنا عن مبادئ فوق دستورية، فيمكننا أن نعتبرها “مجموعة قواعد يتمّ تطويرها واعتمادها أساساً في حالة الصراع الجاري في سوريا بين قوى الثورة والمعارضة من جهة وبين النظام الأسدي الاستبدادي، لأنها ببساطة توفر ضمانات لدى كل المكونات السورية، وتحديداً المكونات التي وجدت نفسها متورطة مع نظام الاستبداد في حربه ضد الشعب السوري.
هذه المبادئ فوق الدستورية هي من يساعد في ترسيخ مفهوم المكونات ومعتقداتها وحمايتها دون الوقوع بمبدأ المحاصصة في الحكم على أساس إثني أو ديني أو طائفي، باعتبار أن مسودة مشروع الدستور السوري الجديد ستبنى على قاعدة دولة المواطنة المتساوية، ضمن المفاهيم الأساسية لشرعة حقوق الإنسان.
إن وجود مبادئ فوق دستورية في الدستور السوري الجديد، الذي يتمّ العمل عليه بإشراف الأمم المتحدة، يمكن اعتباره ضرورة، للاستجابة لمخاوف كل من يخاف من هيمنة كتلة المكون الأكبر في العملية الدستورية، أو الانتخابية، بحيث تكون هناك ضمانات شفافية في عملية الانتخاب.
وإن وجود المبادئ فوق الدستورية سيمنع المكونات السورية من عملية التجاذب والتناقض والصفقات السياسية، لأنها ببساطة ستمنع من تفشي الشعبوية في حالة طرح الدستور على الاستفتاء الوطني العام.
يقول الكاتب السياسي الدكتور محمود الحمزة: يجب أن يكون الدستور الجديد دستوراً وطنياً بامتياز، وهذا يعني أن أي سوري يعيش في سوريا يجب أن يكون متساوياً مع الآخرين أمام القانون، أي أن يكون الدستور يكرس حيادية الدولة السورية تجاه كل المواطنين، دون التمييز على أساس العرق، أو الطائفة، أو الدين، أو الجنس، ويجب أن نخرج من مقولة المحاصصة التي علّمنا عليها النظام، ويجب أن نركز على المفاهيم الوطنية السوري في الدستور بحيث السوري يحس أنه منتمٍ لسوريا، المحاصصات تمزق النسيج الوطني السوري”.
إن اعتماد آليات دستورية جديدة، مع إقرار دستور سوري جديد، يحتاج بالضرورة إلى تغيير في بنية وتكوين وطريقة اختيار أعضاء المحكمة الدستورية، فالصيغة التي تقوم عليها المحكمة الدستورية السورية الحالية، إنما تكرّس إلى جانب صلاحيات دستورية ممنوحة لمنصب رئيس الجمهورية نظام عملٍ، لا يتفق مع بنية نظام سياسي، يقوم على مبادئ المواطنة والتداول السلمي للسلطة، وفصل السلطات.
إن آليات عمل المحكمة الدستورية في الدستور الجديد لا بدّ وأن تتفق مع بنية النظام الجديد، وهذا يعني نزع صلاحيات التشريع من منصب رئيس الجمهورية، وحصرها بالمجلس النيابي المنتخب بصورة شفافة.
من جهة أخرى يرى الناشط الحقوقي المحامي عبد الناصر حوشان في سؤالنا له عن كيفية ترسيخ مفهوم المكونات ومعتقداتها في الدستور الجديد، فيقول: “ترتبط بالدين والمعتقد مجموعة من الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية، وحرية الاعتقاد، كحقٍ من حقوق الانسان الطبيعية، لذا درجت الدساتير السورية المتعاقبة على تضمين “الإسلام” فيها، كدين رئيس الجمهورية، والفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع، واحترام الدولة جميع الأديان، وكفالتها في حرية القيام بكل شعائرها، على أن لا يخلّ ذلك بالنظام العام، وتكون الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية”.
إن التفاوض الحالي في جنيف يجب أن يكون مدخلاّ لكتابة دستور لسوريا بعد الانتقال السياسي، ونقصد أن تكون الوثيقة الدستورية التي يتمّ العمل عليها وثيقة مؤقتة ترتبط بالانتقال السياسي وفق القرار الدولي 2254، والذي يجب أن تتزامن المفاوضات حول سلاله الأربع.
إن دستور سوريا بعد المرحلة الانتقالية يجب أن يكتب في سوريا، من جهات يتم اختيارهم بدقة وموضوعية، وأن يكون مشهودٌ لهم بالوطنية والنزاهة.
هذا الدستور الجديد يجب أن يكرّس الوحدة الوطنية السورية ويحفظ حقوق المكونات الثقافية، وأن تكون هاتان النقطتان فوق دستورية، ولذلك فالدستور الجديد، ينبغي أن تشارك في صياغته المكونات السورية كلها، وهذا يحقق مبدأ المشاركة الشعبية في كتابة هذا الدستور، إذ أن هذه المشاركة تلغي كل غبن يتعلق بمشاركة هذه المكونات بصياغة الدستور، مما يعزّز الثقة بينها ويسمح بمصالحة وطنية شاملة، الأمر الذي يفتح الباب نحو وطنية سورية راسخة.
يقول حسان الأسود في إجابته على سؤالنا: ” حتى تكون الدساتير معبّرة عن الهوية الوطنية لجميع أبناء الوطن، ولجميع مكوناته الاثنية والدينية والطائفية يجب أن تتضمن نصوصاً واضحة باحترام المواطنة كحق فردي للجميع، وباحترام الحقوق الثقافية للجماعات المختلفة. ومن جهة ثانية لا بدّ من خلق آليات لتنفيذ هذه النصوص، ومن بين أهم الآليات اللامركزية في الحكم، حيث يمكن من خلالها توزيع السلطة على الأطراف، ويكون باستطاعة المكونات اتخاذ كثير من القرارات المهمة في مجالاتها، التي تخضع لسلطاتها، والمتعلقة بشؤونها الثقافية”.
إن اللجنة الدستورية الحالية التي تفاوض على دستور جديد في جنيف معنية بتوسيع الاتصال بينها وبين فئات ومكونات الشعب السوري، والوصول إلى خلاصات وطنية تحفظ حقوق المكونات السورية الثقافية وتعتبرها فوق دستورية، مما يفتح الطريق أمام دولة مواطنة حقيقية تجتمع على قاعدة وطنية هي الهوية الوطنية السورية.
كلّ الإحترام والتقدير.
جهد مبارك .
بوركت استاذ أسامة وبورك قلمك الحر