بُناةُ الجسور: في البحث عن هُويةٍ سوريةٍ جديدة
بالعودة إلى الإشكال الهُويتيّ الذي تحدثنا عنه في مقالنا السابق: “تفكيك الهُوية السورية: السلطوية والطائفية والثورة”، والذي أشرنا من خلاله إلى أن الهُوية السورية باتت بالغة التعقيد والتركيب والتفكيك، حتى صرنا نشهد حالة “شبه انفصالٍ هُويتيٍّ” بين الهُويات السورية الفرعية الكبرى، وظهور هُوياتٍ دون فرعيةٍ في تلك الهُويات الفرعية، وكأنّنا أمام مشهد دولٍ مُستقلٍّ بعضها عن بعض، لكلٍّ منها هواجسه الهُويتية واشتغالاته السياسية.
هذا المشهد، يحيلنا إلى إشكالٍ كبيرٍ للغاية، وهو تعقيد عملية إعادة توحيد/بناء الدولة السورية، وهو تعقيدٌ قد يصل بنا إلى حدٍّ بالغ التشاؤم باستحالة العملية ذاتها، في ظلّ احتلالاتٍ خارجيةٍ يشتغل كلٌّ منها على تعزيز خطوط الفصل الهُويتية بُغية تعظيم مكاسبه في المشهد السوري.
وندرك اليوم، أنّ كثيراً ممن اشتغل من السوريين في القضية السورية، وأقصد هنا النخبة العليا التي تصدّرت المشهد السياسي والعسكري الثوري/المعارض، قد أخفق في الوصول إلى إنجازٍ يتوافق مع التطلّع الشعبي، أو يقترب منه. بل على العكس تماماً، فإنّ المشهد اليوم، أكثر سوءاً بكثيرٍ من المشهد إبّان عام 2011، وأبعد ما يكون عن الدمقرطة والدولة المستقرّة مقارنة بذاك العام.
هذا يحيلنا إلى عدم الركون إلى الحراك السياسيّ النخبوي، الذي ما يزال مُفتَقِداً لاستقلاليّته ورؤيته الجامعة وتوافق مساره، دون أن يعني ذلك المطالبة بتهديمه كليّاً، فهو جهدٌ رغم كل عيوبه، ما يزال قائماً. وعدم الركون ثانياً إلى حالة الانتظار الدولي المستعصي، أي إلى حين إنجاز تسويةٍ عابرة للقوى المتدخّلة في سورية، وهي تسويةٌ قد تطول لسنواتٍ أخرى من الخراب السوري.
وعوضاً عن ذلك، نقصد هنا، ضرورة الاشتغال من خارج هذين الإطارين، والتوجه نحو إطار المجتمع المدني السوري، أي على أُطرٍ موازيةٍ للإطارين السياسيين المتعثّرين، وعلى أطرٍ تتوزّع في كل بيئةٍ هُويّتيةٍ من البيئات السورية المنفصلة عن الأخرى، بحثاً عن بناة الجسور.
نفترض في هذا الطرح، أنّ كلّ جماعةٍ هُويتيةٍ فرعيةٍ سورية، خرج عنها مجموعةٌ نخبويّةٌ من أفرادها، عائمةٌ بعيداً عن التحشيد الشعبوي/الديماغوجي، مُدرِكةٌ لضرورة/براغماتية العمل مع الهُويات السورية الأخرى، مُتطلّعةٌ لإعادة صياغة هُويةٍ (ولو كانت آنيّة) تجمع السوريين على مصلحةٍ واحدةٍ قائمةٍ ومستعجَلَةٍ وعليا، تتمثّل في استعادة الدولة السورية، وعلى هذه المجموعات العائمة أن تلتقي حول هذه الاستعجالية المصلحية.
وحين نصف هذه الضرورة بالبراغماتية، فإنّنا نعني انعدام الخيارات المتاحة أمامنا كسوريّين، وفشلنا في التحشيد الإثنيّ الذي اشتغلنا عليه طيلة عشريةٍ سوداء كاملة (في حرفٍ واضحٍ للمطلب الثوري)، وبالتالي سقوط مشاريع التطرّف الهُويتي التي كانت مطروحة سابقاً (العلمنة الطائفية، الأسلمة الجهادية، العرقية الإقصائية، الانعزالية الأقلوية،…).
انعدام الخيارات، يعني أيضاً، عدم امتلاكنا بدائل عن العمل عبر الهُويات (بناء الجسور)، فلا نحن قادرون بشكلٍ مستقلٍّ على دولنة الكيانات السورية المتعدّدة، دون رغبةٍ جادّةٍ من القوى الخارجية، ولا نحن قادرون على فرض سلطةٍ سوريةٍ عليا تمتلك شرعية القوة القهريّة علينا كسوريين، ولا نحن قادرون على تأمين بدائل هُويتيةٍ أو سياسيةٍ (جنسيات) لكلّ السوريين المحتشدين شعبوياً خلف هُوياتهم الفرعية، أو المُوزَّعين شتاتاً في دول العالم، أو المقهورين تحت سلطة الأسد أو السلطات الفرعية المستحدثة التي لم تستطع بناء نموذجٍ سوريٍّ ما بعد ثوريٍ قابلٍ للتعميم.
البراغماتية أو الضرورة، تعني أنّ الخيار الوحيد المتاح أمامنا، هو الاشتغال ضمن حدود الدولة السورية القائمة حالياً، إلى حين وجود أُطرٍ أخرى، وهذه الضرورة تنبع من عدم انتصار فريق على آخر، فالكل خاسرٌ في المشهد السوري، وربّما الرابحون هم أولئك المتدخّلون خارجياً، وخصوصاً المُحتلُّون.
بالعودة إلى فكرة بناء/بناة الجسور: هو طرحٌ لمهمّةٍ شاقّةٍ للغاية، تتطلّب بناء تكتّلاتٍ جديدة، قادرٌ كلٌّ من فيها على احترام الآخر، والإقرار بمسؤوليته عن الخراب الذي حصل، بغضّ النظر عن حجم المسؤولية تلك، وإقرار حقوقٍ وحرّياتٍ وواجباتٍ متساوية للجميع، والفصل بين الذاتيّة الهُويتية والضرورة السياسية.
المهمة الشاقّة الثانية، تتمثّل في صياغة برنامج عملٍ عابرٍ للهُويات الفرعية وما دون الفرعية، قادرٍ على فرض ذاته كبديلٍ عن الخطابات: الطائفيّة، والعرقيّة، والشعبويّة، والديماغوجيّة، والمتطرّفة، والمنغلقة، والمُستسلِمة، والانهزاميّة. بل وعليه الاشتغال على تفكيك تلك الخطابات ومحاصرتها وتهديمها؛ حتّى يكون قادراً على بناء جسورٍ قابلةٍ للاستمرار، ولحمل الثقل التاريخي عليها.
ولعلّ من المهامّ الشاقّة الداخلية، التي لابدّ لها أن تكون حاضرة، تلك المتعلّقة بإنجاز تصوّرٍ توافقيٍّ لمشروع عدالةٍ انتقالية، ينسجم مع فكرة بناء الجسور، وتهديم الطروحات التي تنبني على انتقام/انتقام متبادل، تلك الفكرة المستمرة والدائمة التي رسّخها نظام الأسد في الوعي السوري. هذا التصوّر التوافقيّ سيكون لَبِنةً مُهمّةً في التصالح ما بين الهُويات السورية، والاشتغال المشترك.
المهمّة الشاقّة الرابعة، أمام بناة الجسور، هي الاشتغال ما بين الاحتلالات القائمة في سورية، إذ ربّما يكون لدينا فسحةٌ صغيرةٌ للغاية، وربّما فسحةٌ أخيرة، يمكن الاشتغال عليها ومنها، وهي أشبه ببوابةٍ زمنيةٍ للعبور من الخراب النهائي، إلى استعادة البلاد. بمعنى إقناع الاحتلالات الموجودة أنّ بقاء الدولة السورية هو الأنسب لمصالحها، وأن الاشتغال من ضمن المعطيات الحالية هو أساس التحرك، وليس تهديم ما هو موجود، فالتهديم يعني انفجاراً عُنفيّاً شرق أوسطيٍ آخر، ستطال كوارثه المحيط بأسره، على مستويات الهُوية والسياسة والاقتصاد.
كثيرةٌ هي المهامّ الشاقّة أمام هذا الطرح، لكنّ فكرة بُناة الجسور، هي بالأساس تطلّعٌ نحو السموّ الاجتماعي السوريّ، وأساسٌ لأيّ بناءٍ ديموقراطيٍّ لاحق، وتكتّلٌ في مواجهةِ التفكيك إلى دولٍ سوريّةٍ جديدة، أو ترسيخ المحاصصة الإثنية في سورية، وأساسُ بناء مشروع استعادة الاستقلال السوري.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”