هل انتهى شهر العسل بين أنقرة وهيئة تحرير الشام؟
ارتفعت خلال الأيام القليلة الماضية حدة التوترات والمناوشات العسكرية بين تركيا من جهة وعناصر هيئة تحرير الشام من جهة أخرى، على خلفية تعمد الأخيرة عرقلة تنفيذ بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في الخامس من آذار/مارس الماضي، حول الوضع في إدلب ومناطق خفض التصعيد في الشمال السوري عموماً.
استمرار تجاوزات هيئة تحرير الشام ضد القوات التركية الموجودة في المنطقة بعد أن دب الخلاف بينهما، بسبب رفضها لبنود الاتفاق ينذر بتفاقم الوضع، وزيادة حدة التصعيد المستمرة بين الجانبين منذ ذلك التاريخ، والتي كان آخرها تلك التي وقعت أواخر شهر نيسان/أبريل الماضي بين القوات التركية وعدد من المعتصمين التابعين للهيئة على الطريق الدولي حلب/اللاذقية M4، ما تسبب في مقتل 5 من المعتصمين، وإصابة عدد من الجنود الأتراك، وتطور الأمر سريعاً باستهداف عناصر الهيئة لنقطة مراقبة تركية قرب بلدة النيرب بقذائف الهاون، لترد طائرة مسيرة تركية بشن هجوم استهدف حظيرة الهاون، ما أدى إلى تدميره كاملاً ومقتل وجرح عدد من عناصر الهيئة، التي ردت هي الأخرى بضرب جرافة تركية بصاروخ مضاد للدروع، لتقوم طائرة مسيرة بالرد مستهدفة أحد معسكراتهم.
وفي محاولة تستهدف وقف تلك المناوشات وتحجيم الأمور، منعاً لانفلاتها أو تطورها إلى مالا يحمد عقباه قامت أنقرة بعقد اجتماع مع ممثلين عن هيئة تحرير الشام عبر أطراف وسيطة مقربة منها، أكدت خلاله على طلبها الخاص بضرورة فتح الطريق الدولي M4، الذي يستخدم لتسيير الدوريات التركية الروسية المشتركة، وعدم التعرض بسوء لنقاط مراقبتها العاملة في إدلب أو لقواتها الموجودة هناك، والتوقف عن عرقلة تنفيذ بنود الموقع مع موسكو.
واستباقاً لذلك الاجتماع قامت طائرة تركية مسيرة باستهداف مركبة تعود للهيئة ما أدى إلى انفجارها ومقتل جميع من كان على متنها، في استعراض عملي للقوى برسالة واضحة على جدية مطالبها، وإظهار أنها الطرف الأقوى على الأرض، وأنها تسيطر بشكل شبه كامل على سماء المنطقة، ما يمنحها ميزة رصد تحركات عناصر التنظيمات الراديكالية والتجسس على تحركاتها وأهدافها، وإمكانية استهدافها في أي وقت تريد.
صحيح أن ذلك الاجتماع أسفر عن توقف المناوشات بين الجانبين عند ذلك الحد، بعد أن تم تسريب معلومات تفيد أن هناك جهوداً استخباراتية تركية/روسية تُبذل من أجل تغيير بنية هيئة تحرير الشام أو على الأقل دمجها مع الفصائل المعتدلة الأخرى، إلا أن الترقب الحذر والوقوف على أهبة الاستعداد أصبحا هما سيدا الموقف بين الجانبين، اللذين ربطت بينهما إلى وقت قريب علاقات قوية، حيث راهنت تركيا في مرحلة من مراحل الصراع في سوريا على الهيئة باعتبارها القوة العسكرية الأكثر قدرة وصلابة في الشمال الغربي لسوريا، والتي يمكنها الاعتماد عليها في مواجهة قوات سورية الديمقراطية في شرق الفرات.
إلا أن تطور الأمور السياسية، واختلاف طبيعة المصالح والأهداف التي تتحكم في تصرفات كل طرف تجاه باقي الأطراف الأخرى الموجودة على الساحة، وضع أنقرة في موقف اضطرها إلى الإقدام فعلياً على تفكيك الهيئة وتحجيم أنشطتها، لإفساح المجال أمام جيشها وفصائل المعارضة التي تدعمها من فرض سيطرتها أكثر على الوضع في إدلب، وذلك للحيلولة دون حدوث مواجهة جديدة بينها وبين روسيا، هي في غنى عن حدوثها على الأقل في الوقت الراهن، الذي يتزامن مع التصعيد بينهما على الأرض في ليبيا.
الأمر الذي فتح الطريق أمام العديد من السيناريوهات المحتمل تنفيذها خلال الفترة المقبلة، والتي من ضمنها القيام بعملية عسكرية جديدة، قد تفضي إلى حل الهيئة أو على الأقل إضعاف وجودها وتحييد أنشطتها، خصوصاً بعد أن بدأت جهود مكافحة فيروس كورونا في تركيا تؤتي ثمارها مع انخفاض عدد الإصابات والوفيات، الأمر الذي سيتيح للحكومة التركية توجيه اهتماماً أكبر للملفات الخارجية التي تم إرجاؤها الفترة الماضية، والتي من ضمنها الوضع في الشمال السوري.
ورغم وجود جهات تركية نافذة تستبعد فكرة القيام بعمل عسكري ضد عناصر هيئة تحرير الشام في الوقت الراهن خصوصاً وأن الإقدام على ذلك يستلزم بالضرورة التنسيق مع الجانب الروسي، وهو الأمر الذي يصعب التكهن بإمكانية حدوثه في ظل ما تبديه روسيا من دعم لجهود كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا الرامية إلى توحيد عناصر وحدات حماية الشعب الكردية، التي تعتبرها تركيا فصيلاً تابعاً لمنظمة حزب العمال الكردستاني المصنف لديها كمنظمة إرهابية، وذلك تزامناً مع تنامي دور المجلس الوطني الكردي الذي تعترف به تركيا ممثلاً شرعياً لأكراد سورية.
إلى جانب الخلاف غير المعلن حاليا بينهما على خلفية التطورات التي يشهدها الملف الليبي، إذ تدعم أنقرة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا كممثل للشعب الليبي، بينما تدعم موسكو اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وهو الأمر الذي تسبب في حدوث مواجهة عسكرية غير مباشرة، عبر أسلحتهما المستخدمة من الطرفين المتحاربين.
ومع عدم إتمام موسكو لتعهداتها المرتبطة بالوضع في شرق الفرات، ما يبدو معه الحديث عن تفاهمات جديدة معها بشأن تحجيم دور هيئة تحرير الشام أمراً يفتقد إلى المنطق، وهو ما يزيد الأمور تعقيداً أمام تركيا الساعية لتهدئة الأوضاع بشكل يمنحها الفرصة الكاملة للتفرغ من أجل إنشاء المنطقة الآمنة لاستيعاب مشكلة اللاجئين وإنهاء وجود عناصر حزب العمال المسلحة في تلك الأنحاء.
الإعلان عن احتمالية عقد لقاء تركي/روسي عقب إجازة عيد الفطر، لبحث الملفات العالقة بين البلدين كافة سواء تلك المرتبطة بالوضع في سوريا أو الخاصة بالتطورات على الأرض في ليبيا، يُعد فرصة جديدة أمام الدبلوماسية التركية لطرح مقترحاتها الخاصة بضرورة تحويل وقف إطلاق النار المؤقت في إدلب إلى دائم وشامل، والبدء بتنفيذ البنود التي تم الاتفاق بشأنها بين الجانبين كافة، خصوصاً تلك المرتبطة بتفاصيل العملية العسكرية المتوقعة ضد الهيئة، تحقيقاً للأولويات المشتركة بين الطرفين والخاصة بالتركيز على تحجيم دور التنظيمات الراديكالية القريبة من الهيئة على الأرض، مثل مقاتلي تركستان، وحراس الدين وغيرهما، بهدف إضعاف البنية الهيكلية لهيئة تحرير الشام لتسهيل عملية تفكيكها، تمهيداً لبدء مرحلة جديدة من التحضيرات المرتبطة بالمواجهة مع النظام السوري لفرض أمر واقع على الأرض.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”