انعتاق
المشهد الأول:
بهدوء تام بدأ عبد المنعم يراقب عملية بتر ساقه وكأنّها
تحدث لشخص آخر. قال في نفسه:
– الحمد لله فما زلت قادراً على النسج.
منذ ثمانية أعوام دُعي إلى حفلة صيد على شاطئ وديع،
لكنّه اكتفى بمراقبة ألوان الأسماك من بعيد.. أذهلته المخلوقات الصغيرة وهي تداعب
الماء وتنـزلق من بين الشِباك. ضحك في سرّه ثم ترك السرب وراح يغازل فراشة تغرس
رأسها في عمق تويج وردة ربيعية.
هكذا بدأت الفكرة..
في الزاوية /87/ نسج ثوباً جميلاً بهر تجّار السوق الذين
يحاولون تسويق بضائعهم الرديئة، فأثار حسدهم وغضبهم.
لم يكن عبد المنعم يأبه لترويج بضاعته لأنّه انصرف
كلّياً إلى الاهتمام بفنّه. تنقّل بين المدن واشتهر بأسلوبه في تعليم فن النسج لكل
من يرغب في تلك الصنعة. وكان همّه الوحيد أن يفرش المدن كلّها بسجّاد نظيف.
هدأ تجّار النسيج عندما اطمأنوا إلى أنه لم يكن يطمح إلى
اكتساح الأسواق بسجّاد يحمل علامة تجارية مستوردة تباع بسعر ينافس أسعارهم.
وزيادة في الاطمئنان، وحرصاً على عدم تنقّله المستمر بين
المحافظات، ملؤوا جيوب السيد (م) بالنقود ودفعوه كي يطعن عبد المنعم بسكيّن مسمومة
في ساقه، ما اضطره إلى بترها.
وبالرغم من التخدير الموضعي يحسّ بصرير المنشار على
ساقه، لكنّه يتحمل الألم: الحمد الله.. ما زلت قادراً على النسج.
المشهد الثاني:
في الزاوية /92/ أجرى السيد (م) وبوسائله الخاصة عملية
فريدة من نوعها في جسد عبد المنعم.. قطع له سباّبة وإبهام اليد اليمنى وفقأ العين
اليسرى.
قال عبد المنعم: الحمد الله فما زلت قادراً على تعليم
النسج.
لم يكن في حلب سوى مجموعة صغيرة من النسّاجين يقدّرون
موهبة عبد المنعم. اجتمعوا ذات ليلة وقرّروا أن يفتتحوا له مدرسة يديرها لتعليم
النسيج. بعد فترة وجيزة غزت الأقمشة المتينة بألوانها الزاهية الأسواق وبدأ الكساد
يجتاح المصنوعات التجارية الهشّة.
شيخ التجّار يكره الألوان الزاهية، لذلك قرّر أن يقوم
بحملة إعلانية تدعو الناس إلى الحفاظ على أناقتهم باقتناء الأقمشة التي تضم الخيوط
السوداء والحمراء وتبتعد عن الألوان الخضراء والصفراء والبيضاء المشينة.
ولأن عبد المنعم لم يكن قادراً على مجابهة الإعلانات، قرّر
شيئاً غريباً أيضاً: لصق جفني عينه اليسرى وقطع خنصر وبنصر يدِه اليمنى وجعل يتجوّل
كلّ صباح في أسواق المدينة، ما أرهق السيد (م) الذي أشاع بين التجار أن عبد المنعم
يتعامل مع الشياطين: انظروا إليه.. إنه يغمز بعينه اليسرى، ويُشهر إصبعه الوسطى
باتّجاهكم.
المشهد الثالث:
في الزاوية /94/ اجتمع السيد (م) وشيخ التجار والناطور
تحت ساعة باب الفرج وقررّوا:
– لا بد أن نفعل شيئاً لمواجهته. قال شيخ التجار:
– لا بد من نفيه. لكن السيد (م) كان أكثر حزماً: لابُدّ
أن يُقتل. أمّا الناطور، وبعد تفكير طويل، قال:
– سنجري له عملية. وتساءل الجميع:
– هل نقطع يده الأخرى.. لسانه.. ساقه الأخرى.. لا.. لا..
لا بد أن نُخرج من دماغه المنطقة التي تغذّي ذاكرته النسيجية لنرتاح..
ومن دمشق إلى حلب ربطوه بعربة تجرّها الكلاب.. مرت
العربة بشارع بارون باتّجاه المسلخ القديم.. وهناك مدّدوه على صفيحة حديد ساخنة
وبدؤوا باستئصال الذاكرة النسيجية.. الألوان الزاهية.. سحبوا منه الأدرنالين
وتركوه مثقلاً بدمه بعد أن خاطوا له رأسه كيفما اتفّق، وباستعجالٍ شديد.. لكنّ
الذي أذهل الحاضرين أن ابتسامة عبد المنعم الساخرة لم تفارق شفتيه.
توقّف الطّبال عن القرع.. ارتجفت أيدي المصفّقين للعملية..
ووجموا.
المشهد الرابع:
وحده الطفل الذي وقف بجانب رأس عبد المنعم رأى جموع
المهرة الذين تخرجوا من مدرسته قادمين في ثلاثة أفواج، يحمل الفوج الأول شباكاً
متينة، ويحمل الفوج الثاني أعضاء عبد المنعم المبتورة، وفي الفوج الثالث ظهر أطفال
يجرّون كثيراً من الخيوط الزاهية.
المشهد الخامس:
في صباح الزاوية /95/ لاحظ الناس اختفاء بقايا عبد
المنعم من المسلخ.
في منتصف الظهيرة، جمع شيخ التجّار النّاس في ساحة
المدينة. وقف على منصّة عالية وإلى جانبه السيد (م) والناطور والسيّاف.
صرخ منادي السوق:
– أين عبد المنعم..؟
تعالت الأصوات من بين الجموع:
– هنا..
صرخ المنادي ثانية:
– من عبد المنعم..؟
صاح بعض الشباب والأطفال دفعة واحدة:
– أنا..
لم يدم الاجتماع طويلاً.. هبّت ريح عاتية.. اقتلعت
المنصّة من مكانها.. أبرقت السماء وأرعدت.. وقبل أن يأتي المساء، كانت الأمطار
الغزيرة قد غسلت ساحة المدينة.. وظهرت الخيوط الزاهية من جديد، ممتدة من محطة
بغداد مارّة بشارع بارون حتى الطرف الثاني من المدينة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”