fbpx

الهوية الوطنية

0 375

اختلفت‌ ‌الآراء‌ ‌وتعددت‌ ‌الرؤى‌ ‌السياسية،‌ ‌والفلسفية‌، والاجتماعية‌ ‌حول‌ ‌مفهوم‌ ‌الهوية‌؛ ‌لأن ‌الهوية‌ ‌ليس‌ ‌لها‌ ‌معنى‌ ‌واحد‌، ‌وليس‌ ‌لها‌ ‌مقاربة محددة لذلك تختلف‌ ‌معانيها‌ ‌باختلاف‌ ‌اسقاطاتها‌، ‌فنجد‌ ‌هوية ‌شخصية، و‌هوية ثقافية، و‌هوية ‌اجتماعية، و‌هوية ‌وطنية، كما اختلفت‌ ‌الآراء‌ ‌والرؤى‌ ‌حول‌ ‌كل‌ ‌مفهوم‌، وهذا‌ ‌الاختلاف‌ ‌طبيعي‌؛ لأنّ المفهوم‌ ‌بذاته‌ ‌مفهوم‌ ‌متحرك‌ ‌متحول‌ ‌متطور‌، ‌فهو مفهوم‌ ‌ليس‌ ‌ثابتاً، ‌وليس‌ ‌جامداً.

ما هو معنى‌ ‌الهوية‌؟

بشكل‌ ‌عام‌، ‌متجاوزين‌ ‌تلك‌ ‌المقاربات‌، ‌والقراءات‌ ‌المتعددة‌، ‌والمختلفة‌ ‌لدرجه‌ ‌التضاد‌ ‌أحياناً، ومن‌ ‌الأهمية‌ ‌الانسجام‌ ‌والتكامل‌ ‌بين‌ ‌هذه‌ ‌الرؤى‌، ‌والقراءات‌، ‌والآراء‌ ‌شكلاً ‌ومضموناً‌ً، لأن معنى‌ ‌الهوية‌ ‌يختلف‌ ‌حسب‌ ‌ارتباطها‌ ‌بمن‌ ‌نقصد‌ ‌بهويته‌ ‌أو ‌بحسب‌ ‌مرجعتيها‌ ‌المعرفية‌، ‌فإذا ‌تعلقت‌ ‌الهوية‌ ‌بالفرد‌ ‌فتعني‌ ‌ميزاته‌ ‌الخاصة‌ ‌التي‌ ‌تميزه‌ ‌عن‌ ‌غيره‌ ‌أي ‌تصبح‌ ‌الذات‌ ‌المتميزة‌، ‌وهذا‌ ‌مرتبط‌ ‌في‌ ‌شعور‌ ‌الفرد‌ ‌بأنه‌ ‌مختلف‌ ‌ومتميز‌ ‌عن‌ ‌الآخرين‌، ‌وشعور‌ ‌الآخرين ‌بأنه ‌هو‌ ‌هو‌، متميز ‌عنهم‌. ‌أما ‌إذا ‌تعلق‌ ‌المفهوم‌ ‌بالمجتمع‌، ‌فهي‌ ‌تشير‌ ‌إلى ‌الجوامع‌ ‌المشتركة‌، ‌والخصائص‌ ‌المشتركة‌ ‌التي‌ ‌تميز‌ ‌فئة ‌بشرية ‌ما‌ ‌عن‌ ‌غيرها‌، ‌أي ‌هوية ‌اجتماعية، ‌وأبرز‌ ‌ما‌ ‌فيها‌ ‌هنا‌ ‌أنها ‌تشير‌ ‌إلى الخصائص‌ ‌المختلفة‌ ‌عن‌ ‌فئة ‌اجتماعية ‌أخرى، أي ‌تشير‌ ‌إلى ‌ما‌ ‌هو‌ ‌مشترك‌ ‌بين‌ ‌أفراد ‌هذه‌ ‌المجموعة (الجماعة). ‌وهذا‌ ‌بدوره‌ ‌مختلف‌ ‌عمّا‌ ‌هو‌ ‌مشترك‌ ‌عند‌ ‌المجموعات‌ ‌الأخرى، والعلاقة‌ ‌بين‌ ‌هويه‌ ‌الفرد‌ ‌والهوية‌ ‌الاجتماعية‌ ‌علاقه‌ ‌وثيقة، ‌وخصوصاً ‌من‌ ‌باب‌ ‌الرؤية‌ ‌الفلسفية‌:‌ فالفلسفة‌ ‌تقر‌ أ‌ن لا‌ ‌وجود‌ ‌لهوية ‌فردية ‌إلا ‌من‌ ‌خلال‌ ‌وجود‌ ‌هوية ‌اجتماعية، ‌فهي‌ ‌من‌ ‌هذا‌ ‌الباب‌ ‌الفلسفي‌، ‌أي ‌الهوية‌ ‌بالمنظور‌ ‌الفلسفي‌ ‌هي‌ ‌فرصة المطابقة‌ ‌والتشابه‌، ‌إذن ‌الهوية‌ ‌في‌ ‌الفلسفة‌ ‌هي‌ ‌حقيقة ‌الشيء‌ ‌المطلقة‌، والتي‌ ‌تشمل‌‌ صفاته‌ الجوهرية‌ ‌التي‌ ‌تميزه‌ ‌عن‌ ‌غيره‌، ‌كما‌ ‌أنها ‌خاصية ‌مطابقة ‌للشيء‌ ‌نفسه‌، ‌ويجب‌ ‌أن ‌نميز‌ ‌بين‌ ‌خصائص‌ في ‌الجوهر‌، وخصائص‌ في ‌العرض‌. فالهوية‌ ‌الثقافية‌ ‌في‌ ‌مجتمع‌ ‌ما‌، ‌مثلاً، ‌تعتبر‌ ‌خاصية‌ جوهرية ومشتركة، فالميزات‌ ‌والسمات‌ ‌العامة‌ الجوهرية هي التي ‌تميز‌ ‌مجتمعاً ما عن مجتمع آخر‌، ‌أو ‌حضارة‌ ‌عن‌ ‌حضارة‌ ‌أخرى‌، وهذا‌ ‌أيضاً ‌له‌ ‌علاقه‌ ‌بما‌ ‌يسمى‌ ‌الانتماء‌. ‌فالانتماء‌ ‌علاقة ‌وثيقة ‌بالهوية‌، ولتوضيح ذلك، نستعرض باختصار ‌الدافع‌ ‌إلى ‌الاجتماع‌، ‌وإذا انحزنا‌ ‌إلى ‌الرأي ‌الذي‌ ‌يقول‌: ‌إن ‌الدافع‌ ‌إلى‌ ‌الاجتماع‌ ‌مكتسب‌، ‌ومختلف‌ ‌عن‌ ‌غريزة‌ ‌القطيع‌. نقول: ‌الدافع‌ ‌الاجتماعي‌ ‌عند‌ ‌الإنسان ‌يحقق‌ ‌له‌ ‌ذاته‌، ‌ويؤكدها‌، وبدون‌ ‌الآخرين‌ ‌يفقد‌ ‌الإنسان ‌الكثير‌ ‌من‌ ‌ميزاته‌ ‌الإنسانية‌، مثل‌ الإبداع، والتفوق‌ ‌والمجاملة، والنجاح، والتميز وتأكيد الذات، حتى التفكير‌ ‌من‌ ‌أجل ‌حياة أفضل. ‌كل‌ ‌ذلك‌ ‌مهده‌ ‌الأساسي ومناخه الطبيعي الجماعة (المجتمع)، أي الانتماء لجماعة ‌تقارن‌ ‌نفسك‌ ‌بهم‌، ‌وممكن القول: لا تتحقق هذه الميزات الفردية إلا بوجود الجماعة، إذن الإنسان ‌بحاجة للجماعة‌، و‌بحاجة ‌لشعور‌ ‌بالمحبة‌، ‌والمسؤولية‌، ‌فهو‌ ‌بحاجة ‌لمن‌ ‌يحبه‌، ‌ويحب‌ ‌أحداً‌ يتشابه‌ ‌معه؛ ‌لكنه‌ يختلف‌ بذاته‌ ‌في‌ ‌الهوية‌ عنه. إذن ‌الهوية هنا مرتبطة‌ بالانتماء‌ للجماعة‌. للأهل‌، للأصدقاء‌، للأمة، للوطن‌، وهذه‌ ‌بدورها‌ ‌متعلقة‌ ‌بالهوية‌ ‌الثقافية‌ ‌لشعب‌ ‌ما‌. ‌

نلاحظ‌ ‌هنا‌ أن ‌لا‌ ‌وجود‌ ‌لمفهوم‌ هوية مستقل‌ ومنفصل‌ ‌عن‌ ‌مفاهيم‌ ‌الهوية‌ ‌الأخرى‌، ‌فالترابط‌ ‌واضح‌ ‌بين‌ ‌هوية ‌الفرد‌ ‌و‌‌هوية ‌الجماعة‌، والهوية‌ ‌الثقافية‌، ويتعزز‌ ‌هذا‌ ‌المفهوم‌، أي مفهوم الترابط إذا ‌تناولنا‌ ‌بالبحث‌ ‌المكونات‌ ‌الأساسية‌ ‌التي‌ ‌تحدد‌ ‌ملامحها‌ ‌عند‌ ‌كل‌ ‌جماعة، ‌أو ‌أمة. ‌ومن‌ ‌هذه‌ ‌المكونات‌ ‌الأساسية‌ ‌لملامح‌ ‌الهوية: اللغة،‌ ‌والاقتصاد‌، والعامل‌ ‌السياسي‌، والجغرافيا‌، والتاريخ‌، وقد تشمل العادات‌، والتقاليد‌، والأعراف.

بعد‌ ‌هذه‌ ‌المقدمة‌ ‌البسيطة‌ ‌نستطيع‌ ‌أن ‌ننتقل‌ ‌إلى ‌مفهوم‌ ‌الهوية‌ ‌الوطنية‌، ‌ولنبدأ‌ ‌بالسؤال‌: ‌هل‌ ‌يوجد‌ ‌شعب‌، أو مجتمع، أو حتى جماعة‌ بدون‌ ‌هوية؟‌ وهنا‌ ‌لا‌ بد‌ ‌من‌ ‌الاتفاق‌ ‌على‌ ‌معنى‌ ‌الشعب.‌

‌إذا ‌كانت‌ ‌الإجابة‌ نعم‌ ‌فأنت ‌تلغي‌ ‌كل‌ ‌ثقافة، ‌وكل‌ ‌موروث‌ ‌إنساني، ‌وكل‌ ‌العادات‌ ‌والتقاليد‌ ‌والأعراف، وكأنك‌ ‌تلغي‌ ‌حلقة ‌هامة ‌من‌ ‌حلقات‌ ‌تكوّن‌ ‌المجتمع‌ ‌وسماته‌، أي ‌(الهوية‌) ‌فقد‌ ‌أثبتت ‌الدراسات‌ ‌الاجتماعية‌ ‌أن ‌لكل‌ ‌مجتمع‌ ‌خصائصه ‌المميزة‌، ‌ولكل‌ ‌أمة ‌أيضاً خصائصها التي تميزها عن الأمم الأخرى. كالسمات‌ ‌الاجتماعية‌ ‌والطرق المعياشية‌، ‌و‌الحالات‌ النفسية، ‌والتاريخ، وكل ذلك ‌يتحول‌ ‌إلى ‌شعور‌ ‌بالانتماء‌ قد‌ ‌نسميه‌ ‌شعور‌اً ‌قومياً، ‌أو ‌هوية ‌أمة، أو ‌شعور‌اً ‌دينياً ‌(هوية ‌دينية) أو ‌شعور‌اً ‌ثقافياً ‌(هوية ‌ثقافية) ‌وإذا ‌فقد‌ ‌الفرد‌ ‌هذا‌ ‌الشعور‌ ‌دخل‌ ‌في‌ ‌أزمة تسمى أزمة ‌الهوية‌، ‌أي ‌أزمة وعي‌، ‌ويصبح‌ ‌الفرد‌ ‌في‌ ‌حالة ‌من‌ ‌الضياع‌، ‌ضياع‌ ‌الهوية‌. وقد‌ ‌يترتب‌ ‌عليه‌ ‌ضياع‌ ‌الفرد‌ ‌إذ لا‌ ‌يوجد‌ ‌شعب‌ ‌بدون‌ ‌هوية مشتركة ويكون‌ ‌الاختلاف‌ ‌بين‌ ‌أفراد ‌هذا‌ ‌الشعب‌ ‌في‌ ‌الشكل‌، ‌وليس‌ ‌في‌ ‌المضمون‌، ‌أو نستطيع أن نقول: الاختلاف في العرض وليس في الجوهر، وأعتقد ‌هذا‌ ‌ما‌ ‌أجمع ‌عليه‌ ‌معظم‌ ‌الباحثين‌ ‌لذلك‌ ‌لابد‌ من‌ التركيز‌ ‌على‌ ‌ما‌ ‌يلي‌:

1-‌ ‌الهوية‌ ‌ليست‌ ‌مفهوماً ‌مستقلاً ‌عن‌ ‌غيره‌ ‌من‌ ‌المفاهيم‌، ‌وخصوصاً‌ الهوية‌ ‌الوطنية‌ ‌فهي‌ ‌ليست‌ ‌مستقلة بالمنظور‌ ‌السياسي‌ ‌عن‌ ‌مفهوم‌ ‌الأمة، ‌ولا‌ ‌عن‌ ‌مفهوم‌ ‌الشعب‌، ‌ولا‌ ‌عن‌ ‌مفهوم‌ ‌الديموقراطية، ‌ولا‌ ‌عن‌ ‌مفهوم‌ ‌الدولة‌ ‌وسيادة ‌القانون‌، ‌والمواطنة‌، ‌وتلك‌ ‌العلاقة‌ ‌بين هذه ‌المفاهيم‌ ‌تتحدد‌ من خلال تحديد مفهوم ‌الهوية‌ ‌الوطنية‌، كما يتحدد مفهوم الهوية الوطنية من خلال تحديد تلك المفاهيم، ‌والجدير‌ ‌ذكره‌ ‌هنا‌ ‌أن ‌مفهوم‌ ‌الهوية‌ ‌هذا‌ ‌ليس‌ ‌ثابتاً‌ً، ‌سواء‌ ‌كان‌ ‌هوية‌ ‌جماعة، ‌أو ‌أمة، أو ‌شعب‌، وقد‌ ‌تختلف‌ ‌مفاهيم‌ ‌الهوية‌ ‌في‌ ‌حالة ‌الحرب‌ ‌عنها‌ ‌في‌ ‌حاله‌ ‌السلم‌.

أعتقد‌ ‌محددات‌ ‌الهوية‌ ‌على‌ ‌أهميتها ‌تختلف‌ ‌عن‌ ‌الشعور‌ ‌العميق‌ ‌بالهوية‌. مثال‌: ‌يمر‌ ‌الإنسان ‌بمراحل‌ ‌عمرية مختلفة‌، طفل‌ ‌ثم‌ ‌مراهق‌ ‌ثم‌ ‌شاب‌ ‌ناضج‌ ثم كهل. ‌نرى‌ ‌سماته‌ ‌متغيرة ‌في‌ ‌جميع‌ ‌جوانب‌ ‌شخصيته، ‌فهو‌ ‌الآن ‌ليس‌ ‌كما‌ ‌هو‌ ‌قبل‌ ‌ربع‌ ‌قرن‌، ‌لكن‌ ‌شعوره ‌العميق‌ ‌بالأنا أنه‌ ‌هو‌ ‌هو‌ ‌في‌ ‌كل‌ ‌التطورات‌ ‌والمراحل‌ ‌والسمات‌ ‌الثابتة‌ ‌والمتغيرة‌، هذا‌ ‌الشعور‌ ‌العميق‌ ‌بالأنا ‌النفسي‌ هو ‌الحامل‌ لكل هذه ‌المتغيرات‌، ‌هو‌ ‌الذي‌ ‌يجعله‌ ‌يدرك‌ ‌بأنه ‌هو‌ ‌هو‌ ‌من‌ ‌كان‌ ‌وزنه‌ ‌25‌ ‌كيلو‌ غراماً، ‌وهو‌ ‌نفسه‌ ‌الذي‌ ‌يزن‌ ‌اليوم‌ ‌85‌ ‌كيلو‌ غراماً وهكذا‌. وبالمقاربة مع ‌مفهوم‌ ‌الهوية‌ ‌الوطنية سنرى أنها هي‌ ‌ذلك‌ ‌الشعور‌ ‌بالانتماء‌، ‌مع‌ ‌أنه ‌حامل‌ ‌كل‌ ‌المتغيرات‌.

‌ملاحظة: السلوك‌ ‌الحضاري‌ ‌لا‌ ‌يقتصر‌ ‌على‌ ‌الفرد‌ ‌ولا‌ ‌بد‌ ‌أن‌ نعترف‌ أن ‌للمجتمع‌ ‌سلوك‌ ‌حضاري‌ ‌أيضاً، ‌وهذا‌ ‌السلوك‌ ‌علاقة ‌تأثير‌ ‌متبادل‌ ‌بين‌ ‌الفرد‌ ‌والفرد‌، ‌وبين الفرد‌ ‌والمجتمع‌، ‌وبين المجتمع‌ ‌والمجتمع‌ ‌الآخر، ‌لذلك‌ ‌الوطن‌ ‌المتحضر‌ ‌أي ‌الحضاري‌ ‌مواطنوه ‌متحضرون، مجتمع‌ ‌مستقر‌ ‌هوية ‌وطنية ‌متميزة‌ ‌واضحة ‌المعالم‌، ‌ومجتمع‌ ‌غير‌ ‌مستقر‌ ‌أزمة‌ هوية ‌وطنية، ‌مجتمع‌ ‌وحدته‌ الهوية الوطنية، ‌ومن‌ ‌واجب‌ ‌الدولة‌ ‌والحكومة‌ ‌وما‌ ‌يتبع‌ ‌لهما‌ ‌من‌ ‌سلطات‌ ‌الحفاظ‌ ‌على‌ ‌الهوية‌ ‌الوطنية‌ ‌والدفاع‌ ‌عنها‌ ‌دون‌ ‌تعصب‌.

إذن ‌لا شعور‌ ‌بالهوية‌ ‌الوطنية‌ ‌إلا ‌من‌ ‌خلال‌ ‌قوانين‌ ‌تعزز‌ ‌الديمقراطية‌ ‌وحقوق‌ ‌المواطنة‌، ‌فغياب‌ ‌دولة ‌المواطنة‌ ‌هو‌ ‌غياب‌ للهوية ‌الوطنية‌، ‌ولن‌ ‌نصل‌ ‌إلى ‌بناء‌ ‌هوية ‌وطنية ‌إلا ‌عبر ‌مقوماتها‌ ‌الأساسية‌، ‌وقد‌ ‌تعرضنا‌ ‌لذكر‌ ‌معظمها‌ ‌في‌ ‌سياق‌ ‌الحديث‌ ‌ومن‌ ‌الجدير‌ ‌ذكره‌ ‌أهمية الهوية الوطنية الاجتماعية وكيف تنعكس بالفائدة على المجتمع؟

تمتلك الهوية الوطنية أهمية كبرى في تحقيق الاستقرار داخل المجتمع، بحيث تعمل على توحيد جميع الفئات المختلفة في الدين أو العرق أو اللغة تحت قوانين وأنظمة ثابتة تتبع للوطن الذي تعيش فيه الجماعات المختلفة، ما يحقق الاستقرار وتوحيد كل الأفراد في كيان اجتماعي واحد وتبني رابطة بين جميع أفراد المجتمع، ولكنها بهذا المعنى توحد جماعة مغلقة في إطار اجتماعي إنساني ضيق، كان لها من الأهمية في المجتمعات الأهلية أي ما قبل الدولة، وما قبل المجتمع المدني، وفي مجتمع القبيلة والعشيرة والطائفة وما شابه ذلك، وللهوية الوطنية أهمية كبرى لمجتمع الدولة، إذ تعمل كقوة تربط بين أفراد المجتمع وتحميه من الانقسامات، بحيث يحصل كل فرد على حقوقه ويتمتع بالرفاهية داخل مجتمعه بناءً على هويته الوطنية بغض النظر عن وضعه الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الدين، أو العمر وما إلى ذلك من الفروقات الفردية. تعد الهوية الوطنية من أهم العوامل التي تساعد على بناء مجتمع متماسك وتوحّد بين جميع أفراده بغض النظر عن الاختلافات فيما بينهم كالدين أو القومية أو الطائفة أو الحزب أو الأيديولوجية، ومن هنا تبرز أهمية الهوية، وأهمية وعي الهوية.

كيف يمكننا المحافظة على الهوية الوطنية؟

تتم المحافظة على الهوية الوطنية من خلال تعزيز خمسة عوامل أساسية موجودة في المجتمعات كافة وهي:

1- تعزيز المفاهيم الأساسية للانتماء: ويتم ذلك من خلال مشاركة جميع فئات الشعب جنباً إلى جنب في مواجهة التحديات المختلفة مثل التشتت والتفكك، وهذه المشاركة أحد عناصر الهوية الوطنية التي تسهم في تعزيز الهوية الوطنية لدى الشعوب.

2- الثقافة: يكمن دور الثقافة في تعزيز الهوية الوطنية في أنها تعمل على زيادة الوعي والتماسك المجتمعي، وتسهم في بناء هوية وطنية قوية، وبناء مجتمعات مستدامة وواعية.

3- الوحدة: تعمل الوحدة على تقليص الاختلاف بين الأفراد وغرس روح العطاء في المجتمع دون توقعات ودون مقابل. وإبراز دور المواطنين من خلال تعزيز الأعمال والإنجازات التي يقوم بها المواطنون والحفاظ على مخرجات الدولة ومنتجاتها.

4- تحقيق التوازن بين المواطنين والوافدين: يسهم حدوث التوازن بين الوافدين والمواطنين الأصليين في تعزيز روح الانتماء وتقوية الهوية الوطنية لدى الأفراد.

5- يتم الحفاظ على الهوية الوطنية من خلال قيام الحكومات والمواطنين ببعض الواجبات وأخذ الحقوق التي يحتاجها كل فرد داخل المجتمع.

التحول من الاندماج الاجتماعي للفردانية

أهمّ ما ميّز المجتمع الأوربي الحديث منذ عصر النهضة، التوجّه الليبرالي القائم على تأكيد الوجود الفردي واستقلاليته، وهذه الاستقلالية أو الفَرْدَنَة كانت شرطاً موضوعيّاً لظهور فكرة المواطنة كعلاقة بين الفرد والجماعة، وبينه وبين السلطة. ولو قارنّا بين عصر النهضة هذا والمرحلة الإقطاعيّة؛ لوجدنا أن الفرد في تلك المرحلة لم يُنظَر إليه كشخصيّة مستقلة، بل كان ينتمي إلى مجموعة، وعليه أن يؤدّي وظيفته فيها، وكانت الأدوار الموكلة إليه تستغرقه تماماً، وتعتبر قدراً مُقدّراً عليه، وكان المجتمع يعمل على تعبئة طاقاته الذاتيّة لتحقيق أفضل أداء ممكن منه لمصير المجتمع، وكان يخضع لأوامر المجتمع ونواهيه دون مناقشة وبشكل قسريّ، وشخصيته تذوب بشخصية المجموع على غرار المجتمع القبلي القديم الذي حدث فيه انتقال المجتمع الأوربي من عهد الإقطاع إلى عهد الرأسمالية، ثمّ الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، وانتقال الإنسان من الشخص المحدّد مراتبيّاً إلى الشخص الحرّ الذي ارتبط ظهوره بعصر الأنوار حيث برز تأكيد الوجود الفردي واستقلاليته، وساد ذلك التوجه كل الدول الأوربية والأسيوية المتقدمة، وانتقلت هذه المجتمعات، وهنا يمكن أن نقول أيضاً هذه الدول إلى الحداثة والمواطنة على جميع المستويات، وهذا الانتقال استغرق زمناً طويلاً، وهذه المستويات هي:

1- المستوى الديني: فصل الكنسية عن الحكم، أي فصل صلاحيات الملك عن البابا عن الكنسية، وهذا تطلب زمناً طويلاً، وخاضت أوروبا معارك طاحنة من أجل ذلك.

2- المستوى الفكري: فبعد أن كان المجال الفكري في القرن السادس عشر غير عقلانيّ وسكولاستيكيٍّ (أي يحاول التوفيق بين الدين والفلسفة)، مرتبط بالدين والموروث المقدّس أصبح في القرن السابع عشر متأثراً بالحداثة وبالتالي علميّاً وعقلانيّاً.

3- المستوى السياسي: حيث عرفت أوربا سلطات ثلاث: سلطة الكنيسة، وسلطة الملك، والسلطة المختلطة.

نستنتج من العرض السابق إن الإنسان الأوربي لم يكن حرّاً، بل كان مكبّلاً خاضعاً لعدّة سلطات، لا يتحكّم بمصيره. وعليه واجبات أكثر مما له من حقوق، والأهم أنه لا سلطة له على نفسه، أي لم يكن مواطناً بل رعيّة خاضعة مستعبدة. هذا التنظيم السياسي تعرض للنقد الشديد والاستنكار من قبل مفكري نهاية عصر النهضة عموماً، وبالأخص (ميكاميلي)، وأتت الثورة الفرنسيّة وأطلقت نداء الحريّة، وأصبحت السلطة تجد شرعيتها في النظام الإنساني لا النظام الإلهي كما كان سابقاً، وأصبحت السلطة تعبيراً عن الإرادة الجمعيّة كما قال روسو ومن أتى بعده. ماذا نتج عن ذلك؟ مع مؤسسة الدولة ومركزية السلطة نتج إقامة نظامٍ تدريجيٍّ للانتخابات، وصل ذروته في مشاركة المحكومين في المؤسسات في صياغة القوانين واتخاذ القرارات، وبذلك ترسّخت الدولة كتنظيم إنساني ذي مؤسسّات غير شخصيّة، تحكمها علاقات المواطنة، التي يشارك فيها الشخص في ممارسة السلطة السياسيّة، وأصبح الإنسان الأوربي ناخباً ومنتَخَباً، حاكماً ومحكوماً، متمتّعاً بالحريّة الفرديّة وبالديمقراطيّة، أي أصبح فرداً سياسيّاً، مواطناً في الجمهورية، وهذه هي الفردانيّة السياسيّة.

4- المستوى القانوني: حيث التشريع الذي كان سائداً آنذاك هو الشريعة الكنسيّة، وكلمة قانون حينها كانت تعني هذه الشريعة الكنسيّة، وكانت مأخوذة من الكتاب المقدس الذي راجعه ودققّه واستكمله آباء الكنسية، لذلك كانت الشريعة الكنسيّة مزيجاً لاهوتيّاً قانونياً (خاصة بعد صدور القانون الروماني) يحكم شؤون الكنيسة والعباد، ويدير الشؤون المتعلّقة بالأحوال المدنيّة الشخصيّة من زواج، احترام الأخلاق، قمع الهرطقات، بداية بالعقاب وانتهاء بالطرد من الكنيسة، بمعنى أنه يحكم مجالاً واسعاً يضم المستويين الروحي والدنيوي. ومع اشتداد عود الحكومات الوطنية وازدياد قوّتها، استعاد القانون المدني من الشريعة الكنيسة القسم الأكبر من الشؤون الاجتماعية والإنسانية.

5- المستوى الاقتصادي: حيث اتخذت الحداثة في القرن التاسع عشر صورة اقتصادية تمثّلت بالثورة الصناعية والتكنولوجية التي أحدثت تحولات اقتصادية واجتماعية هائلة. هذه الثورة التي مسّت أغلب النشاطات، وولّدت صناعات جديدة ومتنوعة بسبب تطبيق العلم على الإنتاج.

ماذا نتج عن ذلك؟

نتج تبلور الطبقة الصناعية الرأسماليّة، واحتكارها للسلطة، بسبب تملّكها لرأس المال، وتكوّنت بالمقابل طبقة بروليتاريا (عمّالية كادحة) عريضة موجهة لتنمية رأس المال وخلق الثروات. وبذلك ازدهرت أوربا اقتصادياً بشكل غير مسبوق، وتمددّت خارج حدودها باستعمار بلدان أخرى. هذه الحالة من الحداثة الاقتصاديّة، أخذ فيها الرابط الاجتماعي شكل علاقات السوق، ما أدى إلى قيام الرجل الاقتصادي المجرّد، الصرف. وقد تطور ذلك وتبللور بوضوح أكثر في النصف الثاني من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين مع غزو الفضاء، وثورة الاتصالات، وأهمية العقل الإنساني في الإنتاج. ومع تطورات هامة في مجال العلوم كالاستنساخ وتفكيك الذرة والخلية و…

6- المستوى الاجتماعي: حيث ساد في الفترة الإقطاعيّة نظام الطبقات أو الفئات الاجتماعيّة التراتبيّة، وكانت على العموم ثلاث فئات هي:

1- رجال الكنيسة أو الكهنوت.

2- المحاربون، أي النبلاء الإقطاع.

3- الفلاحون، أو الأقنان، وهم عبيد الأرض، وبقيّة العامّة.

هذه الفئات التراتبيّة مصنفة على سلّم الوجاهة والمقام والصدارة الذي تدعمه سلطة رجال الدين وثراء الطبقة الإقطاعيّة، والفئة التراتبيّة هي جماعة ذات مكانة ووضع شبه ثابت، ومن المعروف آنذاك أن هذا الوضع يعبّر عن إرادة إلهيّة.

ومجيء الثورة الصناعيّة وضع حدّاً ونهاية لمجتمع اللامساواة البنيويّة القائمة على تمايزات طائفيّة وتراتبيّة، ورفع شعار أن الناس متساوون، وجرّدت الأرستقراطيّة من امتيازاتها، وتحررّت العامّة من عيوبها الفطريّة المفترضة، وأُكِّد أنّ الناس يولدون أحراراً، ويبقون أحراراً ومتساوين في الحقوق والواجبات (هذا من حقوق الإنسان والمواطن) وبهذا تم نزع الشرعيّة عن المراتب.

وخلاصة القول إن نتيجة هذه التحولات المرتبطة بعمليّة التمدن، ظهور إنسان جديد، إنسان المدينة والفرد الجماهيري، العاري (كما قال ماركس)، بعد أن تفكّكت التضامنات القرابيّة والتقليديّة بسبب ممارسات البرجوازيّة المنتصرة. فبعد أن كان عضواً في الجماعة انتقل إلى وضعيّة الفرد، الفرد المتحرّر من جماعته، أو الفرد المنزوع من الجماعة، وبذلك وُلِدَ الفرد، إنسان القرن التاسع عشر والعشرين، إنسان المجتمع الغربي.

إذن تضافرت التحولات الراديكاليّة في مجالات الدين، وتصورات العالم، وبُنى السلطة السياسيّة، والهيئات القضائيّة، والبُنى التحتيّة الاقتصاديّة، للمشاركة في حركة إعادة تأسيس الرابط الاجتماعي على قاعدة المواطنة والحداثة. هذه الحداثة في النهاية؟ أدّت إلى فصل مجالات الديني، والسياسي، والقانوني، والاقتصادي، والاجتماعي، وإلى تمايز كلٍّ منها وإبرازه وفرزه.

أمّا المجتمعات العربية فلم تعرف الحداثة، بسبب القطيعة التاريخية التي عاشتها، أعتقد سببها الخلافة الإسلامية العثمانية، من ثم الاستعمار الأوروبي، ما جعل البلدان العربية متخلفة ومتصحرة سياسياً وعلمياً وتكنولوجياً، ومجزأة، فسادها الجهل والاستبداد. وتعيش الآن حالة من الانكماش والتقوقع، بدليل عودة البُنى القَبَليّة إلى الاشتغال ونشاط النزعات الجهوية والعرقية. وللأسف أن يكون عدد كبير من المثقفين العرب طرفاً فاعلاً ومغذياً لها بدلاً من فهمها وتحليلها، وبذلك لم يعد المثقف حاملاً لمشروع اجتماعي، بل صاحب مشروع فردي، يشبه المقاولين الذين لا همّ لهم سوى الربح المادي بغضّ النظر عن السبل الموصلة إلى ذلك. لهذا نشاهد أنه في ظل الليبرالية الجديدة أصبح مشروع المثقف العربي مشروعاً اقتصادياً، يدفعه إليه الاعتقاد أن الشهادة العلمية لا تدرّ على صاحبها منصباً مرموقاً، ولا تكسبه ثروة محترمة. بمعنى أن الليبرالية الجديدة مرّرت عبر العولمة فكرة التنمية في بعدها الاقتصادي فقط، وهذا ما أخذت به الدول العربية، لذلك لم تفلح حتى بالتنمية الاقتصادية، ناهيك عن التنمية الشاملة والوطنية. وما زاد الأمر سوءاً وقوع الأقطار العربية قاطبة بأفخاخ التبعية، ما تسبّب في تأجيج الصراعات العرقيّة والقَبَليّة والجهوية التي تظهر في الخطاب السياسي للمثقفين. والسباق اليوم في المؤسسات السياسية ليس رهانه تحقيق التنمية الشاملة، بل تأكيد تفوّق جهة على أخرى، حتّى تعيين وزير أو غير ذلك يثير حفيظة الجهات الأخرى. وهذا يدل بوضوح على أن الليبرالية الجديدة سرّبت إلى الدول العربية أيديولوجيا تستند إلى أنّ مهمّة الدول التابعة اللحاق بالدول المتقدمة اقتصادياً، لا التخلّص من حالة التبعيّة. وهذا يفسر إصرار الدول المهيمنة على إلزام الشعوب المغلوبة في الدول التابعة بقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني ودولة القانون، والمؤسسات وغير ذلك من الأفكار التي يروجها المثقفون السياسيون ما أوقع على الأرض حالة من التناقض، شمل هذا التناقض مستوى وعي المثقفين، ورجال الفكر والسياسة.

وبالنتيجة يمكن القول إنه لكي يكون الفعل السياسي فعلاً إيجابيّاً، لابدّ من أن يكون صاحبه مدركاً لهويّته، ولطبيعة القوى التي يصارعها، ولابدّ من أن تكون استراتيجيته الفردية متناغمة مع الاستراتيجية الجماعية التي تخدم المشروع الاجتماعي، وهذا ما لم يتحقق بعد في مجتمعاتنا العربيّة.

ولن تحسم معركة الهوية في غياب أدوات سياسية وشعبية لدى الدولة تسمح لها بفتح ملف الهوية الوطنية والتعامل معه على أساس وطني.

والمهم اليوم أن نتفق على تحديد أسس الدولة المدنية، أو دولة القانون وتعزيزها لتستوعب جميع المكونات.

في‌ ‌الختام‌ ‌لا‌ ‌هوية ‌وطنية ‌في‌ ‌ظل‌ ‌الاستبداد‌ ‌في‌ ‌أي ‌زمان‌ ‌كان‌، ‌وفي‌ ‌أي ‌مكان‌ ‌كان.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني