fbpx

النظام الإيراني مفيد لأمريكا.. لهذا لم تسارع لإسقاطه

0 311

المراقب لسياسة الإدارات الأمريكية حيال نظام الحكم الديني الطائفي في إيران منذ 1979، يصطدم بسؤال مشروع يفرض نفسه، وهو: أنه كيف لم تستطع أيٌ من هذه الإدارات المتعاقبة أن تسقط هذا النظام، على الرغم من اشتداد حالة التبجح العلني العدائي لكل منهما نحو الآخر؟. وعلى الرغم من هتاف ملالي طهران ليلاً نهاراً بالموت لأمريكا، ووصمها بالشيطان الأكبر، وتمدد طهران وأذرعها على حساب حلفاء أمريكا في المنطقة، لتهدّد أمنهم، وتفاخر المسؤولين الإيرانيين بالسيطرة على أربع دول عربية، وممارسه الإرهاب، ومحاولات الاغتيال الدولية، ودعم أنشطة الإرهاب عالمياً، ودعم دور حزب الله المسيطر على لبنان، وتطوير أسلحة الدمار الشامل والصواريخ العابرة للقارات، المهددة لأمن أوروبا وللقواعد العسكرية الأمريكية فيها، وعدم الالتزام العملي بعدم تطوير السلاح النووي، ومخالفة الضوابط المفروضة من هيئة الطاقة النووية لضمان عدم تطوير هكذا سلاح، وتطويرها للمسيّرات الانتحارية، والتي تم إرسالها إلى روسيا لمساعدتها في غزوها لأوكرانيا، لتقصف المدنيين انتحارياً هناك. وهذه المسيّرات هي أحدث أنشطة إيران المقلقة التي قضّت مضجع الغرب وأربكته.

إن الولايات المتحدة الأمريكية أثبتت من قبل قدرتها على إسقاط الأنظمة المارقة أو إحداث التأثيرات المطلوبة المؤدية لسقوطها. وأقوى مثال على ذلك، هو تفكيكها للاتحاد السوفياتي وتحرير بلدان شرق أوروبا من استبداده.

لا شك أن السياسة الأمريكية تجاه حكم ملالي طهران تتأرجح بين تشدّد الجمهوريين ولين الديمقراطيين. وهذا ما قد يجعل استنباط الموقف العميق للولايات المتحدة من هذا النظام غيمي ومحل شكٍ وتخمين، ويقنّعه بقناع يخفي الموقف الحقيقي، وكما أنه مؤشر إلى تعقد عدم الوضوح في السياسة والنوايا الحقيقية التي تخصّ دولة عظمى كالولايات المتحدة، ما يرتّب على هذه السياسة مواقف دولية مختلفة المعايير والمقدمات والمصالح.

لقد بدأ اللين الديمقراطي في عهد الرئيس جيمي كارتر، حين احتجز أنصار نظام الخميني بتاريخ الرابع من نوفمبر 1979 أمريكيين في حرم السفارة الأمريكية بعد اقتحامها، وحين ذاك وصف الرئيس كارتر احتجاز الرهائن بأنه “ابتزاز” وأنهم أي الرهائن “ضحايا الإرهاب والفوضى”.

‎رد الفعل الأمريكي آنذاك لم يكن على قدر الفعل الإيراني باحتجاز رهائن، هذا الموقف يتّسم ببراغماتية تسمُ جوهر الفلسفة السياسية للحزب الديمقراطي الأمريكي، فهو يعتبر نفسه حزباً على يسار الجمهوريين، يرفض اللجوء إلى لغة الحزم والجدّية في التهديد بالقوّة لإزالة الأخطار المحدقة بمصالح الولايات المتحدة في العالم، وتحديداً مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، التي يعتبرها نظام حكم الملالي حديقته الخلفية.

اللين الديمقراطي ظهر أيضاً وبصورة مقلقة في عهد الرئيس باراك أوباما، ففي عهده ابتكر الديمقراطيون صيغة تفاوضية حول برنامج إيران النووي، وكانت مخرجات هذا التفاوض منح إيران الأموال المجمّدة في الولايات المتحدة، كدعوة وموافقة أمريكية ديمقراطية لنظام الملالي لاستخدام هذه الأموال في التوسع بالعدوان على شعوب ودول المنطقة، حيث ظهرت نتائج ذلك بالتدخل الأوسع في سوريا وفي اليمن وفي العراق وفي لبنان، وظهرت أيضاً على صورة تهديد حلفاء الولايات المتحدة التقليديين التاريخيين مثل المملكة العربية السعودية والبحرين والهجوم الصاروخي على مدنهم ومنشآتهم النفطية وحتى تهديد جمهورية مصر العربية.

اللين الديمقراطي كان ولا يزال يزعزع مصالح الولايات المتحدة في العالم، في وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى سياسة صلبة حيال أعداء الولايات المتحدة، الذين يهدّدون مصالحها ووجودها الاقتصادي.

ان هذا لا يتم ترجمته حالياً بسياسات واضحة من قبل إداره بايدن، تتبعها الإدارة الديمقراطية الحالية، حيال مسائل الأمن والسلام في العالم، وتحديداً في منطقة حيوية كالشرق الأوسط.

لقد وضحت سياسة الديمقراطيين في البيت الأبيض حيال مسائل دولية يمكن طرحها بوضوح ودون لبس. مثل موقفهم من المحاولات العبثية والاسترضائية لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، ليس بنسخته الأوبامية الهزيلة وغير المجدية أصلاً، والتي لا تضمن عدم تطوير إيران للقنبلة النووية، بل بنسخة أكثر تساهلاً مع إيران من سابقتها. ووضح موقفهم من نظام أسد المتوحش، وكيف أغمضوا أعينهم عن التمدد الروسي الخطير في مفاصل منطقة الشرق الأوسط، حيث سمحوا للروس بإدارة ملف الصراع السوري، وكأن مصالح الولايات المتحدة لا قيمة لها في سوريا، التي تشكّل مدخل الغرب الأوربي نحو العالم العربي، كما سمحوا لإيران بالاستمرار بالهيمنة السياسية على العراق.

‎إن موقف الديمقراطيين (بالمعنى الاستراتيجي) من الملف النووي الإيراني موقف براغماتي خاصٌ بهم، فهو موقف لا يخدم المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وكأن سياستهم أي الديمقراطيين تحيا على بؤر التوتر في مناطق العالم، أكثر مما تحيا على المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وهذا يتضح بتقديم تنازلات لنظام الملالي من خلال الإفراج عن أموالٍ مجمّدة، والسكوت عن سياساتهم العدوانية في دول الشرق الأوسط.

‎كذلك موقفهم من نظام أسد المتوحش الحليف لإيران، فهو موقف لم يكن على قدر المسؤولية، باعتبار أن الولايات المتحدة الدولة الأعظم في العالم، والمعنية بنشر السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، فهم لم يطبّقوا سياسات الردع حيال استخدام أسلحة كيماوية محرّمة دولياً، وتجاوز أوباما ما يسمى الخط الأحمر في استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية، واكتفت حكومة أوباما بحلٍ جزئي من استخدام نظام أسد للأسلحة الكيماوية ضد شعبه، حيث قبلت باستلام ما سلّمه نظام دمشق لهم من أسلحة قال إنها كل ما يملكه، مخفياً برامج ومواقع سرية لتصنيع هذا السلاح الفتّاك.

‎كما أن سياسة جو بايدن الحالية من هذا الوضع هي استمرار لسياسة سلفه أوباما. فكلاهما يعتبر أن القضية السورية تابع مباشر وجزء من الملف الإيراني، وهذا ما شهدناه في تجميد فعالية قانون قيصر، من أجل كسب الود الإيراني في مفاوضات إعادة الاتفاق النووي. وكلاهما يغضّ الطرف حيال السلوكين الروسي والإيراني المؤيد لنظام أسد، المنتهك لحقوق الانسان، والمرتكب لجرائم حرب مثبتة ضد الإنسانية.

مقارنةً بمواقف الديمقراطيين، فإن الجمهوريين كانوا أكثر حزماً تجاه نظام الملالي، وهذا كان جلياً عندما وضعت إدارة جورج بوش النظام الإيراني على لائحة الإرهاب كأول تهديد إرهابي لأمريكا والعالم، وهدّدت بأنه سيكون المستهدف التالي بعد العراق. وكان الجمهوريون أكثر جديةً بتهديداتهم الملحوظة بضرب المنشآت النووية الإيرانية في عهد الرئيس ترامب، ولكن هذه الجدّية كانت تصطدم بالمناورة والانبطاح البراغماتي الإيراني أمام رياح التهديدات الأمريكية الجمهورية، والتي نجحت طهران إلى حدٍ ما بتجنبها، وخاصةً بعد تطمينات الحزب الديموقراطي لهم.

إن الصبر والتأني والبراغماتية الأمريكية الفضفاضة خلال العقود الأربعة الماضية، على تنفيذ أي عمل جذري يقضي على نظام ملالي في طهران، أو يقضي على آماله بإنتاج أسلحه الدمار الشامل والصواريخ البالستية العابرة للقارات، والاكتفاء بمناوراته، وتحديد دوره، ومحاصرته ضمن حدود مخططة له، يمكن أن نجد الإجابة عليها عند قيامنا بعمليه تحليل تراجعي لسياسات الإدارات الأمريكية، ولما أقدمت وقامت به حكومة ملالي طهران من أدوار تتقاطع مع المصلحة الأمريكية، وهذا ما يفسر عدم مسارعة أي من الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ 1979، سواء الجمهورية منها أو الديمقراطية على إسقاطه.

إن وجود تناحر وتصارع بين طرفين في المنطقة، وأعني هنا إيران، من طرف، المحكوم بنظام ديني طائفي يتزعم الإسلام الشيعي، ويدعو إلى نشره، ونشر حكم الملالي، وفكر زعيمه الخميني في البلدان المجاورة، ذات الغالبية العربية والسنية الساحقة في الطرف الآخر، يجعل من التحكم بالشرق الأوسط أمراً أسهل تعقيداً ويخدم بوجهٍ أو بآخر وإلى حد مقبول المصلحة الأمريكية.

هذا التصارع يمنع سيطرة الغالبية العربية ذات الغالبية السنية وصاحبه الموقف الأقوى بشرياً واقتصادياً وجغرافياً وديموغرافياً وجيو سياسياً، ويحدّ من طموحاتها. كما أنه يخدم توريد السلاح، وعجلة الاقتصاد الأميركي. ناهيك بضمان استمرار المصالح النفطية الأمريكية هناك ولعقود.

نظام الملالي في طهران التقط أهمية هذه التقاطعات، وأدرك أهمية دوره، وأهمية إيجاد تقاطعات ذات فوائد مشتركة مع الولايات المتحدة، وأدرك تماماً خطوطه الحمراء، التي حُدّدت له، والتي ستترتب عليها عواقب عند تجاوزها أو محاولة تجاوزها دون توافقات مسبقة، مؤذن بها أمريكياً. ومن هنا امتلك هذا النظام مساحة واسعة من المناورات، غير محدودة نسيباً، تؤمن له اللعب على التناقضات والمتغيرات لإيجاد التقاطعات والتسويات المشتركة مع الإدارات الأمريكية تحقق لهما المصالح المشتركة، وتضمن له البقاء والاستمرار، مع الحذر من التمادي الزائد، وتجاوز الخطوط الحمراء تجنباً لأي غضبٍ للطرف الامريكي قد يسبب إزالته.

إن الانتخابات الأمريكية الأخيرة أوضحت حقيقة رئيسية، هي أن الأمريكيين منحوا ثقة للجمهوريين في السيطرة على الكونغرس، وعلى الرغم من أن الملف النووي الإيراني لم يكن حاضراً أمام الناخب الأمريكي ولكن السيطرة الجمهورية على الكونجرس يعني شلّ سياسة التراخي التي ينتهجها بايدن حيال أهم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في العالم.

‎فلم يعد بعد الآن بإمكان بايدن وفريق عمله تمرير اتفاقيات أو سياسات هامة من خلال الكونغرس، فرجاله مثل مالي وماكغورك وما شابههما، لم يعودوا بقادرين على الاعتماد على الأجراء الصغار إضعافاً للحلفاء الكبار، ودليل ذلك موقف السعودية الرافض لطلب الديمقراطيين بزيادة إنتاج النفط تخفيضاً لسعره، وتسليح من وراء الجدران لحزب إرهابي كحزب العمال الكردستاني ضد دولة حليفة كبرى مثل تركيا.

إن العالم يشهد تطورات كبرى على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي، وأمام فشل الإدارة الديموقراطية الحالية في تحقيق طموحها، بإعادة توقيع اتفاق نووي إيراني، وأمام استحالة هذا التوقيع بوجود سيطرة الكونجرس الجمهورية، يقف الغرب والولايات المتحدة أمام تحدي منع نظام الملالي من إكمال الخطوات النهائية لامتلاك القنبلة النووية، إما عن طريق الحل العسكري بقصف المنشآت النووية، أو إسقاط حكم الملالي بانقلاب شعبي أو دموي، أو غير ذلك، فعلى الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل القبول بإيران نووية، وهو احتمال قد يضطرون للتعامل معه، وستكون نتاجه كارثية على دول الجوار، وبشكل خاص الدول العربية المكشوفة ظهورها، وليس إسرائيل المحمية أمريكياً، والمالكة للسلاح النووي.

هذه الدول العربية معروف أنها ذات الغالبية السنية، والتي تشن عليها لإيران حرباً طائفيةً للسيطرة عليها دينياً وعقائدياً وعسكرياً وجيو سياسياً، وهذا ما سينتج عنه سباق تسلح نووي بينهما.

إن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي سيكون عامل ردع ضد أي هجوم نووي إيراني، وهذا ما قد يفتح شهيه نظام الملالي للسيطرة العسكرية على جيرانها العرب، وعلى رأسهم السعودية مركز الثقل العربي والإسلامي. وليس مستبعداً، أن تكون شعارات تحرير القدس التي أتخمنا بها نظام الملالي ستغيّر بوصلتها نحو مكة لتحريرها من السيطرة العربية السنية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني