المونولوج في الشعر العربي الحديث.. قراءة في قصيدة (الحارس السجين) لـ أحمد مطر
وقفت في زنزانتي
اُقُلُبُ الأفكار
أنا السجين ها هنا
أم ذلك الحارسُ بالجوار؟
بيني وبين حارسي جدار
وفتحة في ذلك الجدار
يرى الظلام من ورائها وأرقب النهار
لحارسي ولي أنا صغار
وزوجة ودار
لكنه مثلي هنا، جاء به وجاء بي قرار
وبيننا الجدار
يوشك أن ينهار
حدثني الجدار
فقال لي: إنّ ترثي له
قد جاء باختيارهِ
وجئت بالإجبار
وقبل أن ينهار فيما بيننا
حدثني عن أسدٍ
سجانهُ حمار
يعتمد “أحمد مطر” كثيراً على ضمير المتكلم بوصفه أحد وسائل الأداء البلاغي، ويجعل منه مرتكزاً حوارياً يصنع به تواصلاً بينه وبين المتلقي، كما يتخذه وسيلة للتضافر الأسلوبي الذى يجعل من النص وحدة متماسكة، ما يوفر لدلالته الترابط والتكامل، وإذا كنا نبحث عن ملامح الحوار الداخلي (المونولوج) في شعر “أحمد مطر” فليس معنى ذلك استقلاله عن قضايا الواقع حوله، بل إنه يتوحد به لتكون “الأنا” تعبيراً عن هموم الفرد/المجتمع “بأقنعة مختلفة يلعب فيها الآخر دوراً لا يقل أهمية عن دور الذات، هذه الأنا الشعرية انتسابها إلى الإنسان في مطلق جوهره القائم على الجدل أقوى من انتسابها إلى الشاعر في واقعه التاريخي أو الجغرافي المباشر الذى يخلو من الأقنعة.
ومن ثم يأتي رصد المونولوج الذي يفترش مساحة النص باعتباره أكثر الدلالات إيحاء بما يفضي ببوح الشاعر إلى مداه، وهو أحياناً ظاهر في مواجهة الأحداث، وأخرى يطل من خلف الأبنية اللغوية والصرفية (كتاء الفاعل وضمير المتكلمين أو الفعل الماضي المتصل بياء المتكلم)، مرات ثالثة يتباطأ، وفي أخرى يتسارع، في أحيان يقف على مطلع الفقرة، في أخرى ينطوي وسطها، ليظل في كل أحواله عاملاً على إطلاق التعبير وتحريره، وممارساً لعبة البوح والاعتراف.
في هذا النموذج تكرر ضمير المتكلم ثلاث عشرة مرة، جاء ظاهراً إحدى عشرة مرة، وجاء مستتراً مرتين. وظهرت معه تقنية الاسترجاع وهي إحدى تقنيات البناء الزمني للسرد لإعادة تشكيل الذات الأولى للشاعر من خلال حوار داخلي مع الجدار؛ حيث ينفتح النص على مشهد مكاني تصوري يحمل في ثناياه أبعاداً زمنية تحمل آلام وذكريات الماضي وعذاباته.
وثمة إشارة إلى دور المونولوج الداخلي والسرد من خلال ضمير المتكلم في ترابط الدلالة على مستوى النص، خاصة عند الانتقال من التكلم إلى الخطاب، وهذا الانتقال يمثل نوعاً من الالتفات يثرى ذهن المتلقي ويقوى صلته بالدلالة، فضلاً عن الحوارية التي تزيد المعنى ثراءً ونماءً.
وثمة فرق بين الشعر الذاتي الذي يعبر عن تجارب الشاعر الفردية الخاصة، وبين الشعر الذي يعالج قضايا الإنسان في مجتمعه/عالمه، وإن كان تصويره لهذه القضايا من خلال تجربة شخصية فإن الشاعر يكون ـ حينئذ ـ همزة وصل بين العالم الداخلي والعالم الخارجي.
ومع أن الشاعر احتال على النص من خلال عملية التجريد فجعل الجدار الآخر يحاوره، لكن صوت الجدار سيندمج مع صوت الشاعر لينتهي المنولوج في رسم معالم الخطاب الشعري من خلال عناية الخطاب بزمن الحضور، إذ هو مصدر هموم الذات الخاصة والعامة فالمؤشرات الصياغية “وقفت، أقلب، أرقب” تتردد في هذه الدفقة الشعورية لتعمل على تعلق الدلالة الشعرية بزمن الحضور في السلب الإيجاب، وأهمية الضمير تتمثل في إتاحة الفرصة للمشاركة في صنع الأحداث والسمو بها من منطقة الواقع إلى منطقة الحلم/التمني.