fbpx

الموسيقى الجنائزية

0 317

عجباً، أن يكون للموت غناء، تطل علينا المواكب الجنائزية من الجداريات الفرعونية وبها المنشدون وعازفو الهارب والناي المزدوج (الأرغول) وهم يودعون المتوفى إلى مثواه الأخير. 
وهناك أنواع من الغناء الخاص بالحزن والموت عند الفراعنة مثل (أولوفيرموس) وتعنى العويل و(يالموس) وتعنى الغناء الحزين وكان يحمل بداخله صيحات تطلقها النسوة، تلك الصرخات كانت ترن في البيوت معلنة عن حاله وفاة، والنوع الثالث هو(مانيروس) وكان يؤدى في الحزن والفرح على حد سواء لأنه كان يخفف من وطأة الحزن، واسترسل هيرودوت في وصف الاحتفالية الجنائزية فروى عن احتفالية أقيمت في جزيرة فيلة حيث يأتي كهان المنطقة كل يوم يملؤون الجرار التي تحيط بمقبرة أوزيريس باللبن وعددها 360 جرة ثم يصطفون حولها وهم يغنون ويرتلون أغنيات جنائزية، كذلك استخدم عامة المصرين الدفوف في المواكب الجنائزية التي كانت تقام على ضفاف النيل.

  ويذكر ديودور الصقلى في كتابه وصف طقوس الجنائز، حين يموت أحد ملوك مصر تتشح البلاد بالسواد وتلغى الاعياد مدة 72 يوماً ويتجمع الناس متشحين بقماش أبيض ملطخين رؤوسهم بالطين ويغنون ما ينعون به هذا الملك واصفين محاسنه وفضائل الموت…ومن أمثلة الأغنيات التي كانت ترتل:

أغني لك يا أبي مولولة أغنية بلوتون الحزينة

وأنت راقد هكذا تحت الثرى

أكرس نفسي لرثائك دوماً بهذه الطريقة كل يوم

في العصر اليوناني ظهرت المأساة، وتعد المأساة شكلاٍ من أشكال الدراما، والمأساة كلمة يونانية من شقين الاول (edhi) وتعني أغنية والثاني (tragos) تعني الماعز وهي نوع من الغناء الجنائزي اليوناني الجماعي (كورس) يغنى أثناء التضحية بالماعز في المسرح اليوناني القديم، وهناك نوع آخر ظهر لتأبين لينوس أحد مبتكري الموسيقى في اليونان كان يسمى (بوزانياس).

وكما هو الحال في كل الحضارات القديمة فقد اختلطت الموسيقى بطقوس الجنائز عند الممالك العربية القديمة، ونجد هذا في الآثار الموجودة في نبطية فقد كان هناك طقس المأدبة الخاص بالجنازة وبنيت له القاعات الكثيرة التي تنتشر في نبطية سواء المنحوتة أو في العراء في مدن صالح والتي بنيت خصيصاً لعمل المآدب الجنائزية بمشاركة المغنيات وعزف الموسيقى.

ظهرت عند المصريين المحدثين فئة تحترف الغناء في الجنائز وكانت الأغنيات الحانها حيوية وايقاعها سريع، وتسبق الجنازة فرقة أو أكثر من المنشدين يقومون بإنشاد الأغنيات لتشييع الجثمان إلى مثواه الأخير بمصاحبة عازفي الآلات النحاسية.

أما خلف الجنازة فكانت هناك النائحات والندابات المأجورات اللاتي تطلقن الصرخات وتنشدن بعض الاشعار التي تمتدح المتوفى بشكل الريستاتيف (الإلقاء المنغم) يعتمد على نغمة أو اثنين فقط صعوداً أو هبوطاً في أداء هذا الإلقاء المنغم  ومازالت مهنة المعددة موجودة حتى الآن بشكل محدود لما لها من حرمة دينية، وتختلف الأبيات الشعرية التي تتغنى بها المعددة  حسب الحالة الخاصة بالمتوفى وتختلف باختلاف الطبقة والجنس والسن وتقوم المعددة بالجلوس وسط بيت المتوفى من أول الوفاة حتى الدفن وتنشد قائلة على سبيل المثال:

كام يا غسال تدهيني؟ تخلع هدوم الزين وتديني 
كام يا غسال ترجفني؟ تخلع هدوم الزين وتحدفني

********

وهناك نوع آخر من الموسيقى الجنائزية، يعتبر الطقس الكلاسيكي الغربي الخاص بالكنائس بطوائفها كافة والمعروف باسم القداس الجنائزي (requiem) والمشتق من الكلمة اللاتينية (requies) وتعني الراحة، والنصوص مأخوذة من الكتاب المقدس، ولم يصلنا من القداسات القديمة المكتوبة سوى قداس أوكجيم والذى كتب في القرن الخامس عشر، ثم توالت مؤلفات القداس الجنائزي (ريكويم) في العصور التالية ابتداءً من الباروك وحتى الآن.

وفى القرن العشرين بدأ نوع من القداسات المعروف بالعلمانية في الانتشار لتأبين ضحايا الكوارث سواء الطبيعية أو البشرية وبدأ هذا التقليد عام 1916 على يد المؤلف فردريك دليوس وقداس لرثاء ضحايا الحرب العالمية الأولى من المطربين، قداس أوسيتيا (2006)، في ذكرى ضحايا مأساة بيسلان، للمؤلف إيفان موديز وآخر لـ تشينج يو دونالد، في ذكرى ضحايا زلزال سيتشوان 2008، وفي فبراير عام 2013 كتب رامي خليفة قداس (الربيع العربي) لرثاء شهداء الثورات العربية وهو أول قداس عربي وقامت بعزفه أوركسترا قطر بالمشاركة مع أوركسترا إذاعة ليبزج، ونال التقدير والإشادة من قبل النقاد.

ومن الأنواع الشائعة للموسيقى الجنائزية (جنازة الجاز) وظهرت في نيو أورليانز بأمريكا في القرن العشرين وتحول اسمها جنازة مع الموسيقى في السنوات القليلة الماضية، وهذا النوع من الموسيقى تعود جذوره إلى القارة الأفريقية، وقد تأثرت الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية وهايتى بفكرة احتفالية الموت من أجل إرضاء من يحملون أرواح القتلى، انتشرت جنازة الجاز بين من هم من أصول أفريقية والهنود الحمر، وتبدأ الجنازة من بيت المتوفى حتى الكنيسة ثم إلى مثواه الأخير بمصاحبة الموسيقى الحزينة وبخطوات رتيبة إلى أن تنتهي بكلمة الوداع بعد الدفن ثم تتبدل الموسيقى وتصبح أكثر حيوية وصاخبة يتشرك الجميع فيها بالرقص والغناء والتفاؤل بالحياة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني