المواطَنة وحاجتها إلى لمّ الشمل
باتت الحاجة ملحّة اليوم أكثر من ذي قبل لوجود جسم وطني يلمّ شمل السوريين، جميعهم، بعد فشل مختلف المؤسسات التي أفرزتها أطياف المعارضة السورية على مرّ السنوات التسع الماضية، بدءاً من المجلس الوطني مروراً بالائتلاف والحكومة المؤقتة والهيئة العليا للمفاوضات، والتي اتخذت من مبدأ المحاصصات السياسية والتوزيع المناطقي والطائفي والقومي مساراً لها، بصورة تذكّرنا بآلية توزيع الكراسي والمناصب داخل برلمان النظام السوري وحكومته ومؤسساته قبل اندلاع الثورة وبعدها.
آلية المحاصصة السياسية والحزبية المتبّعة داخل مؤسسات المعارضة ربما نعتبرها صحيّة نوعاً ما، نظراً للتنوع الفكري والأيديولوجي داخل المجتمع السوري. إلا أن السؤال المطروح اليوم يتمحور حول: ماذا قدّم هذا التنوّع من إنجازات طالب بها السوريون خلال ثورتهم؟
قرار مجلس الأمن 2254 المصادق على بنود مؤتمر جنيف1 قد مضى عليه ما يقرب من خمس سنوات دون أن تتمكّن أيّ من تلك المؤسسات من تحقيق بند واحد من البنود الستة، بل وبدلاً من ذلك راحت تلك البنود تتعرض يوماً بعد يوم لمستجدات أشدّ تعقيداً وأكثر خسارة للسوريين وثورتهم.
وراحت السلة الدستورية، المثقوبة أصلاً، تتسع رويداً رويداً لتبتلع بقية السلال ومن بينها سلّة الحكومة الانتقالية التي كان من شأنها أن تعبر بسوريا إلى برّ الأمان ووتع السوريين على أول سكّة المواطنة والديموقراطية.
نعم، باتت الحاجة ملحّة لخلق جسم سوري جديد، رغم جميع التجارب السابقة التي أفقدت السوريين ثقتهم بمختلف أطياف المعارضة، ودفعتهم مرغمين لتعليق آمالهم على أطراف دولية وإقليمية تحدد مصيرهم ومصير ثورتهم ومستقبلهم.
حين خرج السوريون، بمختلف انتماءاتهم وميولهم، إلى الشوارع يطالبون بالحرية والدولة المدنية وإسقاط النظام، لم يكن بحسبانهم أن يخذلهم العالم ويقف متفرجاً أمام المجازر التي تعرضوا لها، ولم يظنّوا أن التهجير واللجوء سيكون مصير من بقي حياً منهم، وأن ممثليهم عبارة عن شخصيات ومجموعات يعاد تدويرها كل عام أو عامين دون تحقيق أي تقدّم سوى في نوعية ولون الملفات والأوراق والامتيازات الفردية التي يتحصّلون عليها من هذه الدولة أو تلك، أو تبدّل في أماكن انعقاد المؤتمرات المكرّرة بين جنيف وآستانا وسوتشي والرياض والقاهرة وموسكو وبرلين وروما، ومن يعلم أين سيكون مكان المؤتمرات المقبلة بعد انقضاء أزمة الكورونا.
فشل تلك الشخصيات والمؤسسات التي تديرها ساهم في اتساع الهوة بين المكوّنات السورية، فشكّلت بذلك الوجه الآخر لنظام الأسد عن جهل أو قلّة تدبير أو سوء استغلال للمسؤوليات المناطة بها.
ومع عدم تبنيها لمشروع وطني جامع يكفل مستقبلاً للسوريين، كل السوريين، بتحقيق عدالة انتقالية جدّية ومدروسة تقوم على أسس المساءلة والمحاسبة وتعويض الضرر وإعادة الحقوق؛ فلن تكفل تلك المؤسسات للسوريين تشكيل دولة المواطنة الحقيقية.
نعم، السوريون بحاجة إلى جسدٍ جديد يعيد إليهم ثقتهم وصلتهم بمجتمعهم بالدرجة الأولى قبل السعي لتحقيق مطالب سياسية ومكاسب جغرافيّة مقسّمة بين معارضة وموالاة أثبتت السنوات المنصرمة فشلها على جميع الصعد.
وانطلاقاً من هذه القاعدة يجب على هذا الجسد الوليد استبعاد تطبيق آلية المحاصصات الحزبية والمناطقية وبقية التصنيفات الفئوية الأخرى. وسيكون لزاماً عليه أن يعتمد آلية المواطنة، وباختيار السوريين أنفسهم لا غيرهم.