fbpx

الممسوس

0 301

جحظت عيناها عندما رأته. هل يمكن أن يكون هو حقّاً؟ هل تراه بأمّ عينيها، أم أن حلماً يراودها؟ 

بدا خائفاً ترتعد فرائصه من هول المفاجأة. لم يكن يظن أنه سيرى أحداً في الطرف الآخر من النفق. بدت قامته الممشوقة تتكسّر على نفسها. تنطوي كغسيل متّسخ لتندسّ في أقرب غسّالة عابرة. 

الفتاة العشرينية، في السابعة والعشرين تحديداً، متوسّطة الطول. يبدو وجهها الدائري كرغيف طازج محاطٍ بخمار رشيق أبيض مشرّب بلون ورديّ خفيف. عباءتها السوداء الكتيمة ذات الأكمام الواسعة، تنتهي بحذاء رياضيّ أبيض. تسمّرت في مكانها حين رأت المشهد. بدت وكأنّها مشلولة الحركة، تماماً، حتى أن القِدْر الذي كانت تحمله، انساب من يديها قبل أن تتمكّن من وضعه على الأرض، فانسكبت بعض محتوياته، حتى أن بعضاً منها لوّث جفنيها وهي تفرك عينيها لتتأكّد مما تراه.

حرّكت شفتيها فخرجت الحروف خالية من الهواء، لم تحدث أيّ صوت. 

عيناه تتوسلان إليها كي توقف له النزيف. يسند خاصرته اليمنى بكلتا يديه والدم ينفر من تحت أصابعه. 

الأفكار المتناقضة تدور في رأسها مثل نحلة محاصرة تبحث عن مخرج. 

“هل يمكن أن يكون هو فعلاً. هاتان العينان الزرقاوان الوديعتان، وتلك النظرة المنكسرة، هل يمكن أن تكون للشخص نفسه الذي يلقي أوامره للقتل بدم بارد؟ هل يمكن للإنسان أن يبدّل وجهه بهذه السهولة؟ بهذه القدرة على التلوّن والانقلاب إلى النقيض؟ 

ما الذي ينبغي أن أفعله الآن؟ هل أرشقه بهذا القدر المليء بالماء المغلي؟ هل أسعى إلى وقف نزيفه؟ هل أصرخ بملء صوتي: تعالوا خذوه. هذا هو قاتلكم. قاتل أبنائكم. هذا من يدمّر المدن ويقصف أبنيتها كي يضمن ولاءها له. 

منذ ولدتُ تفتّحت عيناي على أبيه رئيساً للبلاد. شخص يحاصرني أينما ذهبت. في التلفاز. في الصحف. على واجهات المباني. في الدوائر الرسمية. في الأماكن العامة. خطاباته كانت تصيبني بالدوار ولا أخرج منها بنتيجة. 

حين سمعنا بموته خيّم السكون المريب على وجه المدينة. صحونا من أثر الصدمة التي حملت شعوراً متناقضاً بين الخوف مما سيحدث، والتفاؤل بانفراج قريب؛ فوجدنا الابن يرث أباه. لم نكن نحن سوى جزءاً من ذلك الميراث. 

لماذا ينبغي أن يستمر كتم أنفاسنا؟ ما الذي فعلناه لننال كل هذا العقاب؟ 

منذ كنت في الخامسة وأنا أحلم أن أصبح طبيبة كي أشفي جدّي من أمراضه. جدي الذي لا يكف عن السعال بسبب تفحّم رئتيه. والآلام التي يعانيها أثناء الطعام بسبب النُكاف. كان دائم الشجار مع جدتي التي تقول له: 

– لن تتخلص من أمراضك إلاّ بعد أن تترك التدخين. 

 كان يكح، ويتصنّع رسم ابتسامة على شفتيه، وهو يدرج اللفافة، بعد أن يوزّع التبغ على ورق الشام. يبلّ طرفها بريقه قبل أن تصبح جاهزة للاشتعال: 

– قلت لك ألف مرة أن سبب المرض هذا القبو الذي لا تدخله الشمس، وهذا اللص (يشير إلى التلفاز حين تظهر صورة الرئيس). 

 لم أتمكن من دراسة الطب. ليس بسبب المجموع، بل أراد والدي أن يختصر مصروفات الدراسة وجعلني ألتحق بمدرسة التمريض:

– يا أم النور دراسة الطب ست سنوات ماعدا سنوات الاختصاص. من أين سآتي بمصاريف الطب الكثيرة وأنا موظف في مصلحة البريد؟ 

 بالرغم من أنني كنت الأولى على دفعتي، لم أتمكن من نيل منحة دراسية بسبب تعنّت جدّي:

– نحن ليس من سماتنا أن نكون كالأغنام. الطلائع تدجين. والالتزام بشبيبة الثورة يفسد البنات. بلا منحة بلا بطيخ. خليهم هم يحصلون على امتيازات الحزب، ونفوز نحن في الآخرة. نيل العلامات والامتيازات عن طريق الحزب، سرقة واضحة لحقوق الآخرين. 

 لم أستطع أن أرسم خطوط مستقبلي. كل ما قمت به هو أنني استسلمت للظروف المحيطة بي. قبلت ما أنا عليه. 

الطاقة الوحيدة التي وجدت فيها متنفّساً هي أستاذ اللغة العربية في مدرسة التمريض. كان وسيماً ولطيفاً إلى درجة أن كل بنات التمريض أحببنه. ذلك لا يهم، ما دمت فزت به أنا وحدي. عيناه لا تتحوّلان عني طوال الدرس. 

لم يكد ينتهي الفصل الأول من السنة الثانية حتى وجدته جالساً أمام والديّ، ويقرؤون الفاتحة. 

ماتزال أفكارها تتوارد تباعاً من هول الصدمة:

هل لديك القدرة على قتل عدّوك عندما تلتقيه؟ 

السؤال لا يتعلّق بقدرتك الماديّة على ذلك. القوّة اللازمة لفعل ذلك، تختلف عن إرادة الفعل. إنّها السمات الأخلاقيّة التي تتحكّم بردّة فعلك تجاه من كنت تحشد قواك الذهنيّة للانتقام منه.

ربما تفتعل صدفة تجمعك به، ثم تتفنّن في ابتكار أساليب جديدة للانتقام: هل تعلّقه من رقبته على عمود كهرباء، أو تعلّقه من رجليه وتتركه عرضة لنهش الكلاب الشاردة؟ 

هل تربطه من خصيتيه وتسحله بدراجة نارية؟

إذا كنت موقناً بأن القاتل يُقتل، فهل تلك القناعة تكفي كي تكون قادراً على تنفيذ الحكم فيه؟

الخطوة الأولى هي المهمة، حينما تقدم عليها، يصبح كل شيء بعدها سهلاً. 

أوّل مرّة تواجه الجمهور، تتعثر بالارتباك والخجل؛ إن تخطّيت ذلك اللقاء بنجاح، تغدو اللقاءات التالية روتينيّة. كذلك القتل، عندما تفعلها مرّة، تغدو قادراً على تكرارها ببرود. كل حساباتك، ومخاوفك، وتوجساتك؛ تتلاشى، بعد أوّل تنفيذ. 

أسند رأسه إلى الجدار. لم تعد ساقاه تقويان على حمله. بدأ يمسح الجدار الخشن بقميصه الأبيض وهو يهبط، تدريجيّاً، إلى أسفل، حتى استقرّ على عَجُزه. 

للقصر الجمهوري أربعة أنفاق، واحد يفضي إلى طائرة النجاة. الثاني إلى “الطاحونة” حيث السجناء الخطرون. الثالث إلى غرفة العمليات السرية. أما الرابع، وهو الذي سلكه، يؤدّي إلى مجمّع صغير فيه مرآب سيارة الإنقاذ، تحيط به حديقة وجزء من مقبرة قديمة، ودار للمسنين. دُرس المجمّع بشكل يضمن تمويه متقن كي لا ينكشف الغرض من المكان. 

عَبَر النفق على عجل. اختياره كان إجبارياً، بعد أن تلقى الطعنة في خاصرته، بالمقص، من محظيّته الخاصّة. لم يجد أحداً حوله. انشقّت الأرض وبلعتهم، فلا قائد للطائرة، ولا حاجة إلى تفقّد الطاحونة، ولا يوجد من يشاطره التفكير في غرفة العمليات. 

المخرج الوحيد هو الولوج إلى الكراج ليستقلّ السيارة المصفّحة وينطلق إلى بيت الجبل. 

المفاجأة التي كانت بانتظاره هي غياب حارس ساتر فتحة مخرج النفق، وأن دار المسنين الخالية تحوّلت إلى مركز إيواء لنازحين من خطوط التماس في أطراف المدينة. هذه الفتاة التي انتصبت في وجهه سوراً يبدّد أي أمل في النجاة.

يستحضر وجه أبيه ويصمم: “لابد أن أحوّل ظهور تلك الفتاة إلى عامل مساعد للنجاة. حان وقت استخدام الذكاء.

لقد مررت بمواقف أشدّ صعوبة وتغلّبت عليها. لستُ غبيّاً يا أبي. منذ بدأت أتعلم الحروف الأولى، وعند أي خطأ، كنتَ تنعتني بالأبله. 

كنتُ، دائماً، ألاحظ تمييزك لأخي الكبير. تحبّه أكثر منّا. تقرّبه، وتهملنا نحن أنا وأختي وأخي المعاق عقليّاً، ما ذنبه المسكين. إذا كنت أنا أبلهاً كما تقول، وأخي قاصر العقل، فلأنك أنت من أورثنا تلك الجينات. 

لقد سمعتك مرة تلوم أمي لأنها تدخّن كثيراً، وتشرب الكحول بنهم:

– أنت السبب في إعاقة هذا الولد، لم تراعي أنك حامل. وها أنت بعد إنجابه تتركينه بين أيدي البغايا. 

نعم تلوم أمي بوجود تلك الكتلة اللحمية المرمية في القصر، ولكن ماذا بشأني أنا. لم تصرّح عن سبب كرهك لي، وعن سبب تحملك هذا الأبله وسط تلك العائلة التي تزهو بالولد الكبير وأخته المدللة. 

أنت لم تقل شيئاً، وأمي لم تدع لك مجالاً كي (تبق البحصة) وتقول لها إنك تعرف. 

كانت مؤامرة منكما، مؤامرة تم التوافق عليها من غير إعلان. 

كان ذلك عشية انتهاء الحرب مع إسرائيل. قرر ضباط القيادة الاجتماع وتوجيه اللوم لك وتنحيتك. أنت وزير الدفاع وعليك تحمّل وزر الهزيمة. لذلك قررت أنت القيام بضربة استباقية. دعوت “صديق العمر” الذي كان رأس الحربة، إلى الغداء في البيت، قبيل الاجتماع. تركته جالساً قبالة أمي على المائدة العامرة، وتسللت كي تجمع أصحابك لمحاصرة قاعة الاجتماع. لم تقل شيئاً لأمي، لكنّها كانت تعرف ما عليها القيام به. 

مربيتي المقرّبة حكت لي أنّك لم تعد تغفر لأمي منذ ذلك اليوم. لم تعد تقترب منها إلاّ نادراً، وحين ولدت أنا، بعد ذلك اليوم بتسعة أشهر وعشرة أيام، بعينين زرقاوين وأصابع طويلة ووجه بيضوي؛ اشتعل رأسك وأنت تتخيّل ما الذي حدث بين زوجتك وصديق العمر. تلك الحصيلة التي هي أنا زادت غضبك على من سمّيته أبي. في مثل هذا اليوم من كل عام تنزل قبو القصر لتذيق صديق العمر كلّ ألوان العذاب، انتقاماً لما جعلته أنت يقترفه.

….

تتشعّب الأفكار في رأسه وهو يرى الفتاة تحدج البندقية المسندة إلى الجدار: “لابد أن أحوّل ظهور تلك الفتاة إلى عامل مساعد للنجاة. حان وقت استخدام الذكاء. لقد مررت بمواقف أشدّ صعوبة وتغلّبت عليها.

يخاطب البتول، بانكسار: أرجوكِ.. ساعديني. يبدو من ملامحك أنك فتاة ذكية، فلا تنساقي وراء الشائعات. لستُ شرّيراً كما يصفني بعض الشبان المندفعين، أو بعض أصناف المعارضة الذين يطمعون بالحكم. الأحزاب الممنوعة والتجمّعات التي تريد تشويه سمعة البلد هي أصل الداء، وهي التي تشيطن القصر الجمهوري، الذي هو قصر الشعب، والذي يبذل جهده للحفاظ على أمن المواطن وأمانه. إن الدول التي تريد بنا شرّاً كثيرة، وعلى رأسها الصهيونية وأمريكا. يريدون السيطرة على بلادنا لنهب خيراتها وجعلها تابعة لهم. نعم قد أكون أخطأت في بعض ردود الفعل، وكذلك أبي – القائد الخالد – ربما يكون اقترف بعض الأخطاء وهو يحاول الحفاظ على سورية قوية موحدة، ولكن ذلك لا يستدعي أن يستجيب الناس الطيّبون، أمثالك، إلى استدراج القوى المعادية لتغيير نظام الحكم. صدّقيني، ستعم الفوضى، ويصبح الكل ضدّ الكل، وتُستباح الدماء، وتقسّم البلاد إلى مدن وقرى ومناطق صغيرة يسهل هضمها. حينذاك سيحتاج المواطن المسكين إلى تأشيرة التنقّل بين المحافظات. بلادنا الآن خصبة خضراء ونجوبها من البحر إلى الجبل إلى السهول، ننعم بخيراتها، ويكفي أننا، من الدول النادرة التي تفتح صنبور الماء لتشرب ماءً عذباً لا يحتاج إلى تقطير. 

 نعم، كما قلت لك، قد يكون أبي ارتكب أخطاءً، ولكن ما الذي فعلته أنا طوال خدمتي لكم. فتحت الباب للحريات والأحزاب وأقمت علاقات طيبة مع دول الجوار. أنقذت لبنان من الحرب الأهلية. تبنيت شعار التطوير والتحديث. أدخلت التكنولوجيا على نطاق واسع. القنوات الفضائية. الهاتف المحمول. 

كانت البتول تصغي إليه بغضب. لم تتمالك نفسها من الصراخ بوجهه: كذب. كل ما تقوله كذب. أشعت فتح باب الحريات بضعة شهور لكشف المعارضين ثم بدأت باعتقالهم وتصفيتهم وملاحقتهم بشراسة فاقت وحشية أبيك. حتى أن أعمالك الشريرة طالت الدول المجاورة فقمت باغتيال رئيس وزراء لبنان لمجرد اعتراضه على بعض مواقفك السياسة من بلاده. لاحقت كبار المثقفين وقمت باغتيالهم في مغترباتهم. تتحدث عن المياه الصافية والأراضي الخصبة وكأنها من منجزات الحركة التصحيحية أو من عطاءاتك. إنها سوريا أيها المغرور الأبله. سوريا أرض الحضارات وينبوع القيم وموئل الأديان. على العكس، لقد كرّس حكم أبيك وحكمك التخلّف. أرجعتم البلاد عشرات السنين إلى الوراء. عصرتم الإنسان حتى بات يكره الحياة ويكره الوطن. الوطن الذي اختصرتموه في أشخاصكم الكريهة. ما ذنب صديقتي أمل؟ لمجرد أنها علّمت التلاميذ، في درس التاريخ، أنه لا يجوز تقديس الأشخاص والأفكار، وأن الحرص على الإنسان حرّاً كريماً هو غاية الأديان؛ اقتحم رجال الأمن منزلها واقتادوها إلى سجنك المليء بالأبرياء. 

انحنت البتول. أخذت حفنة من التراب. رشقته بها وهي تصرخ بغضب: اغتصب رجالك أمل. عذّبوها. رموها في زنزانة منفردة طوال ثلاث سنوات حتى هاجمها السرطان. خرجت محمّلة بكل أوجاع الدنيا، يغمرها اليأس. السرطان أيها الطبيب الكاذب حالة نفسية تنقض على الجسد المتعب لتنهشه قطعة قطعة. استأصلت ثدييها للتخلص من المرض. سنوات القهر بقيت تلاحقها فامتد السرطان إلى الكلية. استأصلت الكليتين واحدة إثر الأخرى، ثم امتد المرض ليغزو أمعاءها. لم يتركها حتى بعد أن غدت نصف إنسان يكمل حياته بغسيل الكلى وتغيير الدم، حتى غدا كأس البرتقال حلماً يراودها في المنام، يختلط مع كوابيسها المتداخلة التي تعاود ذكرى الاغتصابات المتلاحقة والصعق بالكهرباء وطعم مئات السجائر المطفأة في الجسد الغض. 

صمتت البتول. تراخى جسدها. انهارت. حضنتها الأرض. كمشة التراب التي حاولت رشقه بها لم تصل إليه. حدجته بنظرة احتقار مرّة: تعرف؟ لا أراك سوى روبوتاً متحرّكاً. لصالح من تعمل أيها الحقير؟ أعلم أنك قتلت أخاك لتأخذ مكانه. 

تحاملت البتول على نفسها. جثت وهي تقول: هذا هو تاريخك الأسود الذي تعرفه كل الدنيا ولا تعترف به أنت. تظنّ أنك مخلّص الأمة وحاميها. 

أصوات هرج ومرج تأتي من بعيد. رشقات طلقات نارية متفرقة تزيد من توتّر الرئيس.

يخاطبها بعصبية ممزوجة بالرجاء. صوته يبدو خافتاً ناعماً وهو يبرّر ما آلت إليه الأمور: لم أكن أنا الذي خطط ليكون ما صار عليه. لقد دُفعت إلى ذلك دفعاً ممن هم حولي.

يتذكّر طفولته. تحفر في رأسه كلمات أمه. يفكّر في سرّه: أمي أنيسة تقول: يجب أن تأكل كثيراً أيها الغبي. طولك الأهبل يحتاج إلى الغذاء ألا ترى باسل كيف يمتلئ حيوية؟ 

كان أخي يتلقى الدروس التاريخية وأنا كنت مجرد مستمع أتلصص.. أقف في زاوية مهملة وأستمع.. كان أبي، أقصد حافظ، كان يروي لأخي قصص أهم الحكام في التاريخ وكيف حافظوا على ملكهم وقمعوا المؤامرات المضادة: فغاليغولا رأى أن تاريخ حكمه يخلو من المجاعات والأوبئة، وبهذا لن تتذكره الأجيال القادمة فأحدث بنفسه مجاعة في روما، وقام بإغلاق مخازن الغلال مستمتعاً بأنه يستطيع أن يجعل كارثة تحل بروما ويجعلها تقف أيضاً بأمر منه، فمكث يستلذ برؤية أهل روما يتعذبون بالجوع وهو يغلق مخازن الغلال. ونيرون دس السم لأخيه ليتسلم الحكم، بعد ذلك أحرق روما وجلس في برج مرتفع يتسلى بمنظر الحريق الذي خلب لبه. وإيفان الرهيب الذي كان يتدرب على الرماية بإطلاق النار على أهداف حيّة من الفقراء والمشردين. وقتل ابنه كي يبقى هو في الحكم. وزوجة أحد الحكّام، نسيت اسمها، كانت تزور المعتقلات وتنتقي بعض المساجين لتسلخ جلودهم وتصنع منها حقائب جلدية. نعم تذكرت اسمها: “كوخ” كانت تسلخ جلود أجساد المساجين وتستخدمها في أغطية المصابيح وأغلفة الكتب وتصنع منها قفازات وحقائب.

كنت أرى تلك الدروس مسليّة، وطبقّتها على بعض القطط والكلاب في ساحة القصر. كل بضعة أيام كان الحراس يتساءلون: من الذي سلخ جلد تلك القطة، ومن الذي شنق ذلك الكلب؟ كنت أضحك في سري، ولم أخبر أحداً عن مغامراتي اللذيذة.

أولئك الذين وضعوني على دفة الرئاسة، لاشك أنهم يعرفون بأنني جدير أكثر منهم. أنا أعرف نفسي. أنا ما أنا عليه رئيساً، كيف إذن هم؟ مجموعات من الكومبارس كانوا يتحركون حول أبي ويستجيبون لكل ما يأمرهم به. حتى بعد وفاته ها هم يستجيبون ويتوجوني رئيساً. هذا يعني أنني أستحق. أليس الله يعز من يشاء؟ أليس يهب الملك لمن يشاء؟ إذن الله أراد أن أكون ما أنا عليه. كيف يمكن لأحد الاعتراض على مشيئة الله. هههه الله ذلك الذي أودعه تحت.. في قبو القصر، ويعبده أولئك الأغبياء الذين يظنون أنه معهم وأنه سينصرهم علي.

ما أزال في ذهول كامل، منذ بدأتْ حملة التنصيب. كل هؤلاء الناس يصفقون ويباركون! 

لو لم تتعثر قدمي وأنا أصعد المنبر لما أدركت أنني لا أحلم، وأن ما يحدث هو حقيقة وليس خيالاً. 

لم أستوعب، حتى الآن، ما الذي يدفع الناس للزحف خلف شخص واحد بهذه الصورة المشينة. هل يريدون إثقال كاهله برمي أحمالهم عليه، ليتخلّصوا من عبء تحمّل المسؤولية، أم يرون في أنفسهم دونيّة، وجاءتهم فرصة التغنّي بالمخلّص. 

صحيح أنه لا يمكن مقارنة أحد بي، فقد انحدرت من سلالة سياسية لا يُعلى عليها، ونلت شهادات عليا بتفوّق واضح، وأتقن الانكليزية أكثر من الإنكليز أنفسهم؛ لكنّ ذلك لا يمكن أن يكون سبباً وحيداً كي ينحني أمامي كبار الشخصيات السياسية والقادة العسكريين، لابدّ أن هناك أسباباً أخرى تجعل السجود لي فريضة على كل سوري، أسوةً بالنخبة التي تتجمّع في مجلس الشعب، والنقابات القانونية والمهنية الأخرى. 

تدور رأسي انتشاءً بما تحقّق اليوم. وقد تحقّق بمساعدة أبي، ورغماً عنه. 

هذه المرآة التي أقف أمامها، تعكس توهّج نجاحي. تريد أن أفسرّ لك يا شوشو؟ إنك خبيث تعرف، ولكن لا بأس، يحقّ لك أن تتدلل اليوم. 

دعني، أوّلاً، اغتنم فرصة غياب زوجتي التي سافرت إلى لندن للتسوّق. أخلع كلّ ملابسي لأشعر بالحريّة والانطلاق وأنا أمام الكومبيوتر لتراني حبيبتي. لترى رئيس البلاد بكامل عريه الذي يبذّ جسم هرقل. وحدها، فقط، يمكنها تملّي كعبي الآخيلي. أفتح الكاميرا على برنامج “هانكوتس” وأنتظر تواصلها. ابنة الحرام ليست أونلاين، تُرى هي تحت من الآن. المهم سأريها أين وصل حبيبها الذي تسمّيه البطّة. سأريها بطّتها العظيمة. اليوم لا تعنّ على بالي تلك التي أدرجت اسمي في جوّالها: قطّتي. 

لا يهم، كلّهن عاهرات. منذ أن عرفت من هو أبي، واكتشفت كذب السجلات الرسميّة، لم أعد أبالي بشيء. 

صحيح.. الآن وقتها. خادمتي المطيعة الأمينة الكتومة. نبيذي الذي أنتشي به. بها يكتمل الاحتفال. بها، أيضاً، ألقّن تلك العاهرة درساً لن تنساه. سأبقي السكايب متصلاً، صوت وصورة، لترى ما أقوم به مع مربربتي الأربعينية المغناج. أضغط زر الاتصال المباشر معها وأدعوها لموافاتي بعد أن تهيئ نفسها لي. 

متعتي الأساسية تكتمل حين أستلقي على الأرض فتبسط قدمها على خدّي وتمرر أصابع قدمها على شفتي فأتذّوق حلاوة ما بين أصابعها. 

كنت، مرّة، في أوج المتعة وأنا ألعق باطن قدمها، فاستأذنت لتغادر لحظة وتعود، حين سألتها عن السبب: 

– أين ستذهبين يا قحب..؟

حين أجابتني، ازددت نشوة وأنا أتخيّلها تفعل ذلك فوقي، فقلت لها:

– ابقِي حيث أنتِ. جرّبي أن تبولي وأنت واقفة، هكذا. أمطرتني بمائها فرحت أفحّ وأتلوّى كثعبانٍ منتشٍ، ومن وقتها صارت لدينا عادة، كلّما أرادت أن تبول تقول لي: استلقِ يا أسدي العطشان كي أرويك. أغسل أدرانك بما يفيض من بين ساقيّ.

هكذا بدأت حكايتي مع أسماء، بدأت أغازلها وأتقرّب منها على مدى شهرين وهي تتمنّع. خلبت لبّي بقوّة شخصيتها فرحت أتخيّلها كيف تركبني وتشتمني وتبصق في وجهي أثناء مضاجعتها، حتى جاء ذلك اليوم، قالت لي وأنا أتغزّل بسحر شفتيها:

– حتى لو كنت ابن الرئيس فإنك لن تحظى بي مالم تلعق خلفيتي أيها الأبله. قلت لها على الفور:

– نعم.. تعالي.. أحب أن أفعل. عندما نزعت بنطالها رحت أتمرّى بتفاحتها الناعمة المضبضبة، ولم أترك أي مسامة منها لم ألعقها حتى قذفت، بعدها أدمنت تقبيل حذائها وقدميها، وقبل أن أصل إلى سرّتها أكون قد انتشيت غير مرّة. 

إنّها لحظات استسلام تعيد إليّ توازني في مواجهة أولئك الأوباش الذين لا يمكن التعامل معهم بغير الحديد والنار. شعب أهوج متخلّف لا يدرك معنى الشغف والانتشاء. باستثناء مربيتي. أدعوها بكلمات بذيئة كي تطأني بقوّة، وأطلق قهقهتي العالية المعتادة. آه تلك القهقهة التي تدعوني العائلة، بسببها، بالأبله. أضحك بحريّة وعفوية وانطلاق، فيرونها ضحكة بلهاء. لا يهم. المهم من يضحك في الآخر. هذا الأبله سيتفوّق عليكم جميعاً، وستغدون جميعاً تحت أمره. 

كان من الصائب، تماماً، ما قمت به لتمهيد الطريق. 

منذ وعيت الدنيا عانيت استهزاء أفراد العائلة بي. لا أنسى، يوم بكيت من ألم في أذني، كيف نهرني والدي كي أصمت:

– اخرس يا كلب.

حين لم أتمكن من ضبط نفسي، حملني من ياقتي ورماني في البلكون وأقفل الباب خلفي. كان يعاني من ضغط في عمله، وقتها كان يقود انقلاباً على صديقه (الذي عرفت، فيما بعد، أنهم يشيعون بأنه أبي الحقيقي). سمعت أنه أعلى منه رتبة وأنه أقاله من منصبه، لكن أبي (الرسمي) يدبّر أمراً معاكساً. إذن لديه مشاكل. ولكن. أنا أيضاً يؤرقني ألم أذني. كنت وقتها في الخامسة من عمري ولم أستطع تحمّل الألم فبكيت حتى صاحت أمي: 

– يكفيك جعراً يا ابن الحرام. 

لم أكن أعرف وقتها أنها تقول الصدق: ابن حرام. 

أبي غير زوجها. لكنها، بالطبع ستنحاز إلى زوجها في صراعه مع أبي. 

أذكر كم كان الليل موحشاً، حين حبسني في المحرس.. وقتها كانت هناك مشاكل في البلد. تلك المدينة التي تمردت عليه، وخرج منها مسلحون يريدون قلب نظام الحكم، كانت تؤرّقه. 

كنت خائفاً كفأر عالق في مستنقع، غير أن عسكري المحرس آنس وحشتي. كان يداعبني ويلمس أماكن حسّاسة من جسدي. شعرت بنشوة وكأنني أتناول حفنة كبيرة من الشوكولا. قال لي: تعال لنلعب. جعلني أنحني أمامه.. وقف خلفي وبدأ يلامس خلفيتي بلطف. أحسست بشيء ما يتحرك خلف بنطاله. كان الإحساس لذيذاً. انحنى فوقي وشعرت بلهاثه وهو يلعق فتحة أذني. تبددت كل مخاوفي. وكنت، في كل مرة أشعر فيها بالاختناق حين يغضب مني أحد أفراد العائلة. أنزل إلى المحرس باحثاً عن عسكري المحرس لنلعب معاً تلك اللعبة اللذيذة. لكنني، فجأة افتقدت مؤنسي. 

ذات يوم وأنا أضع يدي داخل بنطاله لأتحسس الدفء من موزته التي تكبر في يدي عندما ألمسها، دخل زميله العسكري وبدأ يصرخ في وجهه. يومها أخذوا عسكري المحرس ولم أره بعد ذلك أبداً.

يقف أمام المرآة الكبيرة في غرفة الألعاب، كالعادة، حين ينجز شيئاً مهمّاً، ويتحدّث إلى نفسه: 

يظنّون أنفسهم أذكياء، أولئك التافهون. كيف يخطر في بالهم أن يعصوا لي أمراً. أنا إلههم المتجسّد، وحيواتهم في قبضتي. من منهم يتمتّع بذكائي، وبابتداع الحلول في أشد الأزمات؟ 

لم يتمكن أحد من معرفة ما يمكن أن أقوم به لأقلب الطاولة على رؤوس من يحاولون إعادتي إلى الخضوع القديم. كان أخي الأكبر يستهزئ بي…أبي ينهرني بشدّة وينعتني بابن الحرام، ولم تكن أمي قادرة أن تتبنى الدفاع عني.. ترى هل أنا فعلا ابن حرام؟ ذلك سؤال لا يمكن لغيرها الإجابة عنه بشكل حاسم، ومع ذلك لم تنبس ببنت شفة.. سأقول لكم كيف تغلّبت على من حاولوا الاستكانة من حولي، وسأخبركم كيف واجهت سخرية أخي، وكيف تغلّبت على ذكاء أبي وحنكته وخبثه في إدارة البلاد.. وجعلته يرى، وهو على فراش الموت، كيف تمكّن ابن الحرام هذا من الانتصار على كل من حوله. 

يريدون مني أن أتنازل؟ كيف؟ الشعب لا يشبع. كلما استجبت له طلب المزيد.. وفي النهاية سيقوم، إما بقتلي أو محاكمتي من غير أن يفهم بأنني كنت أحافظ على الدولة.. أواجه العدو الخارجي، ولابد للشعب من الاصطفاف خلفي لدعمي وليس لمطالبتي بأمور تافهة. 

بعضهم قد يظن أنني روبوت أو كراكوز تحركه أيادٍ خارجية. أنا من أقرر ماذا يجب أن يكون، وأستخدم الدول الأخرى لتحقيق مآربي السامية مقابل بعض الامتيازات أقدمها لهم، وهي ميزات لا تتحقق إلا بعد سنوات طويلة أكون قد حققت، خلالها، ما أريد، ولذلك الوقت من يأتي بعدي يتصرف. ربما يقول أحد: ماذا عن التاريخ؟ ماذا سيكتب التاريخ؟ طز في التاريخ. ماذا سيؤثر علي ما يكتبونه في أوراقهم عني؟

ثم إن التاريخ سيكون في صالحي. كل الرؤساء غيري سيُتكب عنهم سطر، مجرد سطر في كتب التاريخ، أما أنا فالحديث عني سيملأ الصفحات. من الآن بدأت الكتابة عني.. يحللون شخصيتي.. يحاولون تفسير ما أقوم به.. منجزاتي. إنني أكثر اسم يذكر في العالم منذ ثلاثة عقود. جعلت العالم كله يعرف أين تقع دولتي وصارت تتصدر المحافل الدولية التي تعمل لها ألف حساب. 

عاد صوت البتول يحفر في رأسه:

– اعلم أيها السيئ الرئيس إنك عندما تكون حيث لا يجب تقوم بما لا ينبغي. أنت الآن في قبضتي وستنال ما تستحقه. ستدفع ثمن ما اقترفته يداك. قل لي: هل حقاً أنت درست الطب؟ قالوا إنك كنت مريضاً نفسياً وأرسلوك إلى بريطانيا للعلاج فاغتنمت الفرصة وتعرفت إلى أسماء وخططتما معاً لإزاحة أخيك لتستلم مكانه. لقد كنت تمتلئ حقداً على أخيك المقرب من والديك اللذين لم يكونا يلتفتان إليك. من أنت لتقول إنك تطعم المعتقلين من خبزك؟ 

من أنت لتعطي وتمنع وتعاقب وتشفع؟ 

انظر كيف كانت دول العالم وأين صارت في الخمسين سنة الماضية وكيف تدهورت حال بلادنا من حكمك وحكم أبيك. 

يتوسّل إليها كي تساعده بتضميد جرحه. يعدها بالجاه والمال إن هي تركته يذهب. يقول لها: صدقيني، كل العالم معي. مصالح الدول بين يدي، ولن يتخلون عني. إن تمرد بعض الأفراد لن يوصلكم إلى شيء. 

الجرح يؤلمه: 

– طعنتني تلك التافهة، كل الذي أردته هو أن أدخل زجاجة النبيذ في ثقبها لأعرف كيف يختلط الألم باللذة، لكنّها غافلتني وغرزت المقص في خاصرتي وولت هاربة.

رياح عاتية تجتاح المكان. يهتز الشجر. سقف الصفيح يصدر أصوات قرقعة. ينهمر المطر غزيراً على حين غرّة. صوت البَرَد يعزف إيقاع شتاء ينعم بالزمهرير. السماء تدحرج براميلها وكأنّها تخوض معركة بين النجوم. يغتنم الرئيس فرصة تقلبات الطقس وانبهار البتول، يتناول حجراً كبيراً يرميها به. تصاب كتفها فتصرخ من الألم وتكاد يغمى عليها. يتحامل على نفسه. يتعثّر وهو يركض بكل قواه المتبقيّة، يتوارى في النفق.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني