الكشف عن مصير المفقودين الضرورة المُلِحَّة!
بتاريخ 17 حزيران 2022 دعت لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن الجمهورية العربية السورية الدول الأعضاء إلى اغتنام الفرصة لإنشاء آلية للكشف عن مصير الأشخاص المفقودين “فبعد مرور أكثر من عقد على بدء النزاع السوري، تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 100,000 شخص في عداد المفقودين أو اختفوا على يد أطراف النزاع – من القوات الحكومية والجهات المسلحة غير التابعة للدولة”.
لم تعُد خافيةً على أحد سياسة النظام السوري المُمنهجة في تعامله مع معارضيه من السوريين، التي تقوم على الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والقتل خارج القانون ضدهم، وارتكاب المجازر الجماعيّة ذات الدافع الطائفي، وكانت أشهرها وأكثرها وحشيّة في عهد حافظ أسد مجازر حماة وحلب وجسر الشغور في ثمانينيات القرن الماضي، وكانت مجازر وريثه المجرم بشار الذي فاق أباه في الإجرام والوحشيّة فكانت المجازر والاعتقالات التعسفيّة والإخفاء القسري تفوق ما فعله مورِّثه بآلاف المرّات.
لم يكتفِ النظام المجرم بارتكاب تلك الجرائم وإنما عمِل على مَنع أهالي الضحايا من معرفة مصير أبنائهم، ومنعهم من القيام بالإجراءات القانونيّة سواء لتسجيل الوفيّات، أو اللجوء إلى القضاء للحصول على حكم يبتّ في مصير الغائبين والمفقودين أو إدارة شؤونهم، وكانت أهدافه من ذلك تعليق حياة المفقود بين الحياة والموت وبالتالي تعليق مصائر الزوجات والأبناء، ومصير الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يملكها المفقود أو الغائب أو التي ستؤول إليه أو سيورِّثها لخَلَفه، والهدف الثاني هو الابتزاز والإثراء غير المشروع لزبانية السُلطة، والهدف الأخير والأهم هو طمس آثار جرائمه في محاولة منه للإفلات من العقاب.
من جملة الحقوق الموقوفة الناتجة عن الفقدان والغياب حقوق أصليّة للمفقود مثل “حق الحياة، حقّ الحريّة، حق التملّك والتصرّف وحق المحاكمة العادلة…”، وحقوق للغير تبعيّة ترتبط بمصير المفقود وجوداً أو عدماً مثل “حقوق الزوجة بالتفريق لعلّة الغياب والسجن، وحقّ الزواج من آخر بعد ثبوت مصير الزوج المفقود، وكذلك حقّ التوارُث بين سلف وخلف المفقود، وكذلك تصفيّة حقوقه الماليّة بمواجهة الدولة فيما إذا كان موظفاً أو مُرتبِطاً بها بعلاقة عقدية تمنحه حقوق ماليّة أو عينيّة…”.
القانون السوري والمُشتق من الفقه الإسلامي يميّز بين المفقود وبين الغائب من حيث الأحكام.
المفقود: هو كل شخص لا تعرف حياته أو مماته أو تكون حياته محققة لكنه لا يعرف له مكان.
الغائب: يعتبر كالمفقود وهو الذي منعته ظروف قاهرة من الرجوع إلى مقامه أو إدارة شؤونه بنفسه أو بوكيل عنه مدة تزيد عن سنة وتعطلت بذلك مصالحه ومصالح غيره.
“ينتهي الفقدان بعودة المفقود أو بموته أو باعتباره ميتاً عند بلوغه الثمانين من العمر، ويُحكم بموت المفقود بسبب العمليات الحربية أو الحالات المماثلة المنصوص عليها في القوانين العسكرية النافذة والتي يغلب عليه فيها الهلاك وذلك بعد أربع سنوات من تاريخ الفقدان”.
وقد عقّد النظام السوري عمليّة إدارة أملاك الغائبين والمفقودين من خلال اشتراط الموافقة الأمنية وتنظيم ضبط بالفقدان الذي كان يستغّله النظام لإجبار ذويّ الضحايا على الإقرار بأن “العصابات الإرهابية” هي من خطفت أو قتلت أو أخفت مفقودهم، في محاولة منه لتبرئة مجرميه منها.
وحيث أن حق معرفة مصير المفقودين هو حق أصيل لأهالي الضحايا بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف الأربع وملحقاتها، واتفاقية منع الإخفاء القسري، فإن تشكيل آلية خاصة للكشف عن مصير الأشخاص المفقودين في سوريّة أصبح ضرورة مُلِحَّة للكشف عن مصير مئات الآلاف من المفقودين الموثَّقين وغير الموثَّقين لإغلاق ملفّاتهم القانونية وتصفيّة حقوقهم وحقوق أزواجهم وورثتهم الشخصيّة والماليّة، كما أن هذه الآلية ضرورية لاستكمال ملفات اللجنة الدوليّة المستقلة الحاصة بسورية والمتعلقة بالمعتقلين تعسفيّا، أو المختفين قسريّاً، أو المفقودين جراء المجازر والمقابر الجماعيّة أو القتل خارج القانون التي ما زالت مفتوحة بسبب عدم وجود الأدلّة القانونيّة المعتبرة مثل معرفة مكان الوفاة أو القتل أو معرفة سببه أو مكان دفن الجثامين وعدم تسليمها إلى ذويها أصولاً أو تسليمهم أي وثائق رسمية تُفيد ذلك، الأمر الذي يساهم في تعزيز ملف محاسبة النظام السوري عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة، بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن الدوليّ رقم “2474” لعام 2019 وقرار الجمعيّة العامة للأمم المتحدّة رقم “22876” لعام 2021.
لذلك وجب علينا نحن السوريين أفراداً وجماعات وهيئات ومنظمات مستقلّة أو رسميّة “ثورة أو معارضة” العمل على الضغط على الأمم المتحدّة للاستجابة لدعوة اللجنة الدوليّة المستقلّة وتشكيل الآلية الخاصة بالكشف عن مصير المفقودين في سورية تتبع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين على غرار الآليات التي أُنشِئت في مناطق النزاع في العالم من جنوب أفريقيا إلى العراق وليبيا والبوسنة والهرسك ولبنان وآخرها في أوكرانيا.