الفيتو الروسي والصيني ومحاولة الضغط على واشنطن
تحقيقاً لمصالحهما المتشابكة، ومراعاة لحليفتهما إيران، جاء استخدام روسيا والصين لحق الفيتو مرتين متتاليتين في غضون ساعات قليلة للحيلولة دون استمرار تدفق المساعدات الإنسانية للشعب السوري عبر المعابر الحدودية، رغم التحذيرات من كارثة تتهدد حياة أربعة ملايين سوري يعيشون في شمال غرب البلاد، ويعتمدون كلياً على حزمة المساعدات التي تقدم لهم عبر تلك الآلية، ووصفها مسؤولون أمميون بإنها تحولت إلى “شريان حياة” بالنسبة لهؤلاء.
التحذيرات التي صدرت من جانب ممثلي المنظمات الإنسانية، ومندوبي الدول في الأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، لم تلق آذاناً صاغية من جانب روسيا والصين، اللتان تُصران على ضرورة تقليص عدد المعابر الحدودية، والإبقاء على معبر واحد فقط، مع طرح روسي لمقترح يقضي بإيصال المساعدات الإنسانية لتلك المناطق عبر الداخل السوري، أي من خلال نظام الأسد.
وهو المقترح الذي ترفضه باقي الدول الخمسة عشر الأعضاء في مجلس الأمن، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي وصفته بأنه قرار غير ملائم، وساخر ومملوء بالدعاية ومشوه للحقائق على الأرض.
إخفاق مجلس الأمن في التوصل إلى قرار بتمديد آلية المساعدات الإنسانية عبر المعابر الحدودية، التي سبق وأن أقرها منذ 6 سنوات، وكانت تشمل آنذاك كل من تركيا والعراق والأردن، وتم تقليصها لتقتصر فقط على معبري باب السلام وباب الهوى التركيين تلبية لمطلب روسي/صيني، يعني إحكام إغلاق أبواب المعابر الحدودية للأراضي السورية كافة مع جيرانها، وذلك بدءاً من العاشر من الشهر الجاري، ومنع تدفق المساعدات إلى شمال غرب سوريا المكتظ باللاجئين الذين يعانون سوء الأحوال المعيشية والصحية، فيما يبدو وكأنه مخطط متفق عليه من جانب الدول المؤيدة للأسد، التي قررت المضي قدماً في دعم ذلك النظام الفاشي حتى النهاية على حساب أرواح ملايين السوريين، في تحد واضح ومستفز للمجتمع الدولي والأمم المتحدة والولايات المتحدة الامريكية.
استخدام الفيتو الروسي والصيني ضد تمديد آلية إيصال المساعدات الإنسانية عبر تركيا، ومطالبتهما بأن يكون ذلك من خلال النظام السوري نفسه، على اعتبار أنه النظام الحاكم، ويسيطر على 60% من أراضي الدولة، ويتحكم في مصير البلاد أرضاً وشعباً، يهدف في حقيقة الأمر إلى لي ذراع واشنطن تحديداً، والضغط عليها بل وإحراجها أمام المجتمع الدولي باستخدام ورقة المساعدات الإنسانية وحاجة اللاجئين المتزايدة لها، لحثها على التراجع عن تطبيق قانون “قيصر” الذي يفرض عقوبات اقتصادية على نظام بشار الأسد والمتعاونين معه.
وهي خطوة رغم خطورتها وسلبياتها المتعددة على أوضاع اللاجئين، إلا أنها تؤكد على أن النهج الذي اتبعته الولايات المتحدة وسياستها في إدارة ملف التعامل مع نظام الأسد بدأ يأتي أُكله، رغم أن ذلك لم يتضح جلياً بعد، وأن روسيا تحديداً تستشعر ذلك الأمر، وأنها وجدت نفسها قاب قوسين أو أدنى من الغرق في المستنقع السوري وفق المخطط الأمريكي، لذا سعت إلى استخدام ورقة المساعدات تلك للحيلولة دون استفحال الأمور أكثر، وذلك بعد أن فقدت الليرة السورية قيمتها، وازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً، وأصبحت خزينة النظام شبه خاوية، وتصاعدت حدة الاحتجاجات حتى داخل المناطق التي يسيطر عليها الأسد، والمعروفة بولائها له.
وهي دلالات تصب باتجاه حقيقة انهيار النظام السوري فعلياً تحت وطأة تلك الأزمات المتتالية التي أصبحت تلاحقه، والفضائح التي يتم الكشف عنها، الأمر الذي من شأنه منع روسيا وحلفاء الأسد عموماً من الاحتفاظ بمكتسباتهم داخل سوريا، بل ويعيق تنفيذ خططهم الرامية إلى الاستحواذ على كعكة إعادة الإعمار التي خططوا لها كثيراً خلال السنوات الماضية، والتي تحتاج إلى حوالي 250 مليار دولار، وفق تقديرات الأمم المتحدة، وهو مبلغ يمثل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للجمهورية السورية قبل اندلاع الحرب.
عجز الاقتصاد السوري عن توفير ذلك المبلغ بعد أن حاصرته واشنطن بعقوباتها، وقلة حيلة حلفائه روسيا وإيران لنجدته ومساعدته بسبب العقوبات المفروضة عليهما، وانهيار أسعار النفط، ومكافحتهما لوباء كورونا، جعلت الأسد في موقف لا يحسد عليه بعد أن فقد القدرة على إعمار ما هدمته الحرب، وإعادة الحياة إلى طبيعتها في المناطق السورية على اعتبار أنه الممثل لنظام الدولة، تلك الصفة التي يسوق نفسه بها، ما يعني أنه نظام عاجز لا فائدة تُرجى منه، بعد أصبح لا حول له ولا قوة، وهو ما سعت العقوبات الامريكية إلى كشفه، أما الهدف الأكثر أهمية بالنسبة لواشنطن ومصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط فهو تحويل سوريا إلى مستنقع من الوحل سيغرق فيه كل من ساند الأسد ونظامه خصوصاً روسيا ومن بعدها إيران.
إحكام قبضة الولايات المتحدة على الاقتصاد السوري، من خلال تطبيق قانون قيصر وعبر تشكيل جبهة موحدة تجمعها ودول الاتحاد الأوربي للحيلولة دون حصول الأسد على أية تمويلات تمكنه من إعادة الإعمار، وزيادة حجم العقوبات المفروضة على النظام والداعمين له، من شأنه تحويل المكاسب التي حصلت عليها كل من روسيا وإيران إلى أعباء ثقيلة تراهن الإدارة الامريكية على أنهما ستسعيان لاحقاً للتخلص منها بأي ثمن، وهو أحد أهم الأهداف التي تسعى واشنطن لتحقيقها من وراء تفعيل قانون قيصر، إلى جانب إجبار الأسد على الرضوخ للقبول بوقف شامل لإطلاق النار في جميع المناطق، والدخول في مفاوضات جدية تضمن حدوث تحول سياسي شامل وحقيقي يستند إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يحمل رقم 2254، وذلك بمشاركة جميع أطياف الشعب السوري، دون استبعاد أو تهميش أحد، والقيام لاحقاً بإجراء انتخابات حرة ونزيهة تؤهل الأسد لمغادرة السلطة سلمياً وفق نتائجها.
لذا فليس من المنتظر أن ترضخ الإدارة الامريكية لقواعد اللعبة في سوريا وفق المنطق الروسي، الذي يعتمد على الابتزاز، وهو ما يتضح من خلال التصريحات التي أدلى بها مايك بومبيو وزير الخارجية الذي دعا إلى معاقبة روسيا والصين على الفيتو المزدوج لهما في مجلس الأمن ضد مشروع قرار إيصال المساعدات الإنسانية إلى السوريين عبر معبري باب الهوى وباب السلام التركيين، الذي تقدمت به كل من بلجيكا وألمانيا، قائلا أن بلاده “بصدد زيادة وتوسيع حجم العقوبات التي تفرضها على سوريا، وأن المرحلة المقبلة ستؤدي إلى فرض عقوبات على عدد من المسؤولين والشركات الروسية التي لاتزال تغذي منطق الحرب فيها”.
ويبدو أن هذا ما أدركته روسيا التي أعربت في بيان لخارجيتها عن خيبة أملها من تصريحات بومبيو، وأسفها لموقف واشنطن ومن يشترك معها بالأفكار، الذين يسعون – على حد البيان – إلى التلاعب بالمؤسسات الإنسانية لخدمة – من وصفتهم – بالراغبين في تغيير السلطة في الجمهورية العربية السورية!
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”