العشائر ما بين ثورة 1919 وثورة 2023
شهدت منطقة الجزيرة السورية منذ بداية الثورة السوريّة تنافساً محموماً بين أصحاب المشاريع الخارجيّة الدخيلة على الشعب السوريّ وقد نشر كل أصحاب مشروع أدواتهم وأذرعهم في المنطقة للسيطرة عليها عبر ترويض أو ترهيب أو إغراء أهلها العُصاة على الإذلال والإذعان وهم أهل سبقٍ في الثورة وتشهد لهم ساحات الثورة سِلماً وحرباً، وتكمن أهميّة هذه المنطقة في موقعها الجغرافي الذي يتّصل بحدود كل من العراق وتركيا، بالإضافة لكونها أهم مراكز الثروات الوطنيّة في سورية التي تضم منابع البترول وسلّتها الغذائيّة وأهمّها القمح والثروة المائيّة عبر نهري الفرات ودجلة والثروة الحيوانيّة.
لقد حاول نظام أسد إخماد الثورة في المنطقة في بدايتها عبر عمليّات الاغتيال والقنص ثم استهداف المتظاهرين ولما اشتدت الثورة لم يدّخِر سلاحاً إلا واستخدمه ضد أهلها، ولمّا استيئس عمِل على إثارة النعرات الطائفيّة والعرقيّة والعشائريّة بين أطياف الشعب السوري هناك الذين فيهم العرب والكرد والمسلمين والمسيحيين والإزيديين حيث أوعز الى عملائه بتشكيل ميليشيات طائفيّة وعرقيّة ودينيّة ومذهبيّة التي بدأت بأعمال الفتنة بين أبناء المنطقة واثارة الأحقاد على مبدأ فرِّق تسد التي ساندتها كل من روسيا وإيران.
ثم تطورت الاحداث بعد دخول تنظيم الدولة الاسلاميّة “داعش” الذي دفع الدول الغربيّة للتدخّل العسكري المباشر بقيادة الولايات المتحدة عبر تشكيل التحالف الدولي ضد هذا التنظيم وحصر هذا التحالف مهمته في قتال التنظيم الذي دفعه للاستعانة بالمنظّمات الانفصاليّة الكرديّة التي عرفت بقسد بعد إغرائها بمنحها حكماً ذاتياً مستقلّا عن سورية وإغراقها بالعتاد والمال والسلاح وبعد حملة التحالف لتحرير الرقة استتبَ الامر لهذه المنظّمات وبدأت عمليّة تنفيذ مشروع الإدارة الذاتيّة والتسلّط على أبناء المنطقة من جميع الاطياف فبدأت بتغيير الثقافة ثم تغيير العقائد ثم التغيير الديموغرافي حيث هجّرت أكثر من نصف سكانها من العرب والكرد قسريّاً ولم تمنحهم حق العودة بل قامت بوضع يدها على ممتلكاتهم عبر سن قانون إدارة أملاك الغائبين، وفرض التجنيد الالزامي وانشاء محاكم ليس له من اسمها نصيب فهي أشبه بمحاكم الميدان العسكريّة التابعة لنظام أسد، ولم تكتفِ بذلك فقد انتهكت المحرّمات واستباحت الأعراض ومارست كل أنواع الفجور بحق أبناء المنطقة.
وأصبحت الإدارة الذاتيّة أشبه بإدارة الانتداب الفرنسي في سورية كما اظهرتها الوثائق السريّة بين الجنرال غورو والرئيس الفرنسي آنذاك “ميلّران” الواردة في كتاب بلاد الشام في مطلع القرن العشرين لوجيه كوثراني ص 228 حيث كانت هذه الإدارة تقوم على ثلاثيّة “المفوّضيّة العليا، الجهاز الإداري والتقني، الجهاز العسكريّ” الذي تديرها اليوم في شرق الفرات كل من فرنسا وبريطانية والولايات المتحدة عبر ما يُسمى المستشارين الإداريين والتقنيين والعسكريين، وتشجيع أبناء المنطقة على الانخراط في الوظائف التي تركوها لهم وتشجيعهم على تشكيل هيئات سياسيّة باعتبارها ضرورة من ضرورات سياستهم في الشرق”.
وهو ما يدفعنا لإعادة قراءة أي مشروع يطرح لإدارة المنطقة ومنها مشروع الإدارة الذاتيّة الذي يقوده حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني، ومشروع سورية الاتحاديّة الذي تقدّم به عدد ممن ينتمون للمعارضة السوريّة وهما مشروعان يتقاطعان مع المشروع الفرنسي القديم الجديد وهو الجزء المؤجّل من مشروع سايكس بيكو المعروف بمشروع الدولة الكردية الذي وضعه كل من الرئيس الفرنسي آنذاك ’’ميلّران‘‘ من الجنرال ’’غورو‘‘ و’’دو كاي‘‘ مستشار المفوضيّة العليا في سورية صاحب مشروع ’’فيدرالية سورية‘‘ والذي جاء فيها: ’’قبل كل شيء لا يمكننا أن نُدخل في هذه الفيدراليّة مباشرة أراضي تركيّة’’عنتاب وبيرة جك وولا أراضي كرديّة ’’شرق الفرات مع أورفه وماردين‘‘ وهي مناطق تقع في الشمال والشمال الشرقي وتفتقد أي رابطة قوميّة مع سورية فهذه البلاد التركيّة لا يمكن السيطرة عليها إلا بالقوة بانتظار اللحظة التي تقبل فيها تركيا حدودها الجنوبيّة وقد يكون من الممكن ولكي نتجنب إقامة إدارة عسكرية مباشرة تسليم الحكم لمدة من الزمن لباشا تركي تجري مراقبته بصورة دقيقة والشيء نفسه يمكن ان يحصل الى البلاد الكردية ففور حدوث العمليات العسكرية المعادية التي يقوم بها القوميون الاتراك يمكن ان تسلّم البلاد الى زعماء محليين أذكر منهم خاصة ’’محمد بك‘‘ زعيم قبيلة الملّي ويجب تعديل رسم الحدود كي لا تقسم قبيلة الملّي إلى قسمين إن هذا الوفاق مع الاكراد وتوطين عناصر كلدانيّة وأشورية على طول خط سكة الحديد في شرق الفرات يضعانا في وضع سياسي مثالي حيال الكردستان‘‘.
أمّا عن مشروعهم مع القبائل العربية فقد اقترح ميلّران ما يلي: ’’عن الوفاق مع القبائل التي تنتشر شرق المدن الأربع ويقصد بها ’’دمشق وحمص وحماه وحلب‘‘ من الشمال الى الجنوب لا يطرح مشكلة حقيقية فهذه القبائل ليس لديها تعاطف مع النظام الحجازي وتبدو أنها مستعدة للتفاهم معنا وبما أنه ليس لدينا أي نية للتدخل في شؤونها او ممارسة سلطتنا على الصحراء التي تفصل سورية عن بلاد ما بين النهرين يسهل تنظيم علاقتنا بهم عن طريق ’’التكليف‘‘ وأن نعالج من دون الحاح أو تسلط ما نطلبه منهم ألا وهو الامن على اطراف المدن الأربع وفتح طرق الصحراء أمام التجارة وهنا نذكر أن الخدمات التي يمكن أن يقدمها ضباط الارتباط المعنيون بالقرب منهم والهدايا والاعتبارات التي تقدم اليهم من شأنها أن تضمن العلاقات الجيدة التي تؤمن مصلحة الجميع….‘‘. نفس المرجع ص 232.
ولكن مع اكتشاف النفط والغاز في منطقة الصحراء والبادية والجزيرة السوريّة فمن الطبيعي أن تتغيّر النظرة الغربيّة لها وبالتالي يقتضي منها إعادة انتاج مقاربة أخرى مع القبائل والعشائر العربية غير تلك التي تبنّاها ميلّران بما يحقق لها السيطرة على هذه الثروات.
ويعيد الجنرال الأمريكي المتقاعد رالف بيترز إحياء هذه المشروع عبر ما أسماه مشروع ’’حدود الدم‘‘ الذي يعيد تقسيم المنطقة على أسس عرقيّة ومذهبيّة على اعتبار ان تقسيمات سايكس بيكو ظلمت الاقليّات ومنها البلوش والبهائيين والاسماعيليين والنقشبنديين والشيعة العرب ومسيحي الشرق الأوسط والاكراد الذي ينادي بوجوب منحهم حق إقامة دولتهم في تركيا والعراق وإيران من ديار بكر حتى تبريز في إيران ومن كسب السوريّة غربا على البحر المتوسط مرورا بحلب والرقة ودير الزور حتى الحسكة شرقاً. التي يعتبرونها في حال نجاح تشكيلها أكبر دولة تدعم السياسة الغربية في المنطقة الممتدة من بلغاريا غربا حتى اليابان شرقاً.
إن إسقاط هذه المشاريع القديمة والجديدة على أرض الواقع ومقارنتها مع الوقائع والخطط التي يتم العمل عليها من قِبل دول التحالف الدولي التي تقوده الولايات المتحدة، والصراع بينها وبين كلٍ من نظام أسد الطائفي وإيران وروسيا من جهة وبينها وبين تركيا من جهة أخرى ودفاعها المستميت عن عصابات قسد واستمرار دعمها العسكري والسياسي والمالي ضد سكّان المنطقة من العرب وضد تركيا التي تحاول دفن هذا المشروع في أرضه لما يُشكِّله من خطر على أمنها القومي ووحدة أراضيها وشعبها، الامر الذي يدفعها للتعاون مع الروس أحيانا ومع الإيرانيين أحياناً أخرى لتجنّب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكيّة.
لذا فإن أهميّة ثورة أهلنا من العشائر العربيّة في المنطقة ليست مجردة ثورة على ممارسات قسد الإجراميّة بل هي أسمى وأكبر من ذلك فهي ثورة لتحطيم مشروع تقسيم سورية وغرز كيان غاصب استيطاني هو الوجه الآخر للكيان الصهيوني وهو امتداد حقيقي لمشروع ’’إسرائيل الكبرى‘‘ التي حدودها من الفرات إلى النيل كما يزعمون.
القبائل والعشائر العربية في سورية هي نواة الدولة والمجتمع السوري وأي محاولة لنزع هذه النواة يعني تدمير الدولة والشعب السوري.
وعلى دعاة سورية الاتحادية والفيدرالية والإدارات الذاتية والكف عن تمرير المصطلحات والمفاهيم التي لا أصل لها في تاريخ سورية التي تدلس على الشعب كالشعوب الاصيلة والمكوّنات السوريّة فالشعب السوري ليس مجموعة مكونات منفصلة بعضها عن بعض وإنما هو مجموعة أطياف مجتمعيّة متعدّدة تجمعها المواطنة والمساواة والعدالة.
ثورة أهلنا هناك تذكرنا بثورة 1919 في العراق التي وثّق مشاركة عشائرنا فيها الشاعر الفراتي بن دير الزور محمد الفراتي في هذه الأبيات:
انهض وَرَوِّ العوالي من عِداكَ دماً واستخدم السيف والقرطاسَ والقلما
ففي الجزيرةِ في وادي الفراتِ وفي أرض العراقِ قلوبٌ تصطلي ضرما
إنْ لم تصلها وتطفي غًلْيَ مرجلها تضمُّ جيشاً يعمُّ السهلَ والأكما
يكون آخـــــره بالدير متَّصلاُ وصدر أوَّله ’’بالفاو‘‘ مرتطما
الأمر الذي يقتضي من كل السوريين والعرب الأحرار الوقوف مع أهلنا العشائر في ثورتهم كما وقفت عشائرنا مع العراق في ثورة 1919 وتقديم كل أشكال الدعم السياسي والعسكري والمالي حتى تمكينهم من تحقيق هدفهم في تحرير المنطقة من براثن هذه العصابات ومُشغِّليها.