fbpx

العدالة والقانون

0 241

حظيت فكرة العدالة باهتمام الباحثين والدارسين عبر التاريخ الإنساني، كأهم قيمة اجتماعية إنسانية بأعلى هرم الفضائل، ومعيار لتقييم الأعمال الإنسانية، وكمصطلح يختزل وصف الأخلاق. فعند وصفنا لشخص بأنه (عادل) نكون قد اختزلنا جملة الأخلاق النبيلة فيه.

الحديث عن العدالة له بعد فلسفي، أساسه قانوني، فالفلسفة هي التحليل والتركيب والاستنتاج وهذا يجعلها مسلك القانونيين في بحثهم عن قوانين وتشريعات بعد التحليل عن الواقع لأي ظاهرة، وإشكالية تحتاج نصوص جديدة والقياس والتركيب والاستنتاج، وما يمكن أن تقدمه هذه القوانين وفق رؤية فلسفية منطقية كحلول أقرب للعدالة التي هي الغاية الأسمى للقوانين والمبرر لنشأتها، من هذا المنظور كان بحث واهتمام الفلاسفة عن العدالة كخير مطلق منذ القدم. تجسد هذا الاهتمام

بالعدالة، بالفلسفة اليونانية عند أعظم الفلاسفة اليونانيين أفلاطون وأرسطو حتى غدت نظرية أفلاطون (المدينة الفاضلة) محط إعجاب ودراسة الفلاسفة والباحثين القانونيين والاجتماعيين في العصر الحديث. جمع أفلاطون أفكاره وفلسفته في تنظيم المجتمع نحو مجتمع مثالي تسوده العدالة والفضيلة في كتاب أطلق عليه اسم (الجمهورية).

في سياق نظرة أفلاطون الفلسفية للعدل كقاعدة ثابتة مطلقة مسلم بها لا تحتاج برهان، كالخير والحق والأخلاق تمثل القانون الطبيعي الذي هو حجر الأساس لحل المشاكل الفردية بالمجتمع واستنباط الحلول منها كونها الأشمل والثابت لكل القوانين.

كانت نظرة أفلاطون حول فلسفة العدالة والقانون الملاذ للأنظمة الدكتاتورية الشمولية في فلسفتها للحكم المطلق بتقسيم المجتمع لفئتين فئة القادة الأرستقراطيين والمتميزين بامتلاكهم المعرفة الكاملة المستمدة من القوة العظمى والكلية بالوجود، بينما الفئة الأخرى تشمل بقية الفئات المستضعفة وعامة الشعب، التي يوجب عليها القانون الطبيعي الامتثال، والخضوع للفئة الأولى. كان هذا سبباً لمفسدة الحكم، واضطهاد الحكام لشعوبهم، إلى أن جاء عصر النهضة التنويري في أوروبا وانتشرت أفكار العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة ، وأن الشعب هو مصدر السلطات وليس الحاكم الإله الذي يجب أن يستمد شرعية حكمه من الشعب، بهذه الفلسفة والرؤية الجديدة لمعظم مفكري الحداثة حول القانون والمجتمع والدولة العادلة وبيان مساوئ فساد الحكم المطلق، نصعت وتجلت لدى المفكر جان جاك روسو فكرة الديمقراطية الذي تبنى نظرية “الفرد سابق لوجود الدولة” أي “هو قبل الدولة ومجموعة الأفراد يكونون الدولة” فعندما يكون الفرد متمتعاً بكل حقوقه الأساسية توجد دولة قوية تتمتع بأفراد فاعلين مؤثرين بشكل إيجابي نهضوي في المجتمع يبنون دولتهم على أسس العدالة بموجب قوانين عادلة تساوي بين جميع أفراد المجتمع. فنشأت فكرة الديمقراطية كمبدأ أساسي لأنظمة الحكم، وتعاظمت فكرة الديمقراطية حتى غدت واقعاً في معظم الدول الأوربية وأمريكا بما تضمنته دساتيرها وقوانينها من قيم العدالة والمساواة وبالانسجام مع مبادئ حقوق الإنسان، بهذه المفاهيم بنت أوروبا حضارتها خدمة لشعوبها وللبشرية التي تنعم بما قدمته من تقدم علمي وقانوني وتكنولوجي ما جعلها سيدة الحضارة في العصر الحديث.

إذاً، كان التقدم العلمي والحضاري نتيجة التقدم والتطور بالقوانين والدساتير بخطى أقرب للعدالة.

في هذا السياق نستنتج تلازم مسار العدالة مع المسار القانوني على افتراض أن أي قانون يهدف إلى تحقيق العدالة وأنه اليد النافذة والملزمة بتطبيق العدالة، وبناء عليه يتم تصنيف القوانين فيما إذا كانت عادلة أم لا، فالمعيار هو مدى شمول النص القانوني وتضمنه إمكانية تحقيق العدالة، لنقول عنه عادلاً أو منقوص العدالة، هذا يدعونا لدراسة كل القوانين والدساتير القائمة ومدى قربها من مفهوم العدالة ومدى فاعليتها على أرض الواقع فيما إذا تضمنت نصوصاً عادلة.

إذاً، العدالة تحتاج قوانين عادلة تساوي بين جميع أفراد المجتمع تصدر عن سلطة تشريعية مستقلة لا تخضع للسلطة التنفيذية لتكون تشريعاتها أقرب لتحقيق العدالة التي تنشدها، وتحتاج أيضاً لقضاء نزيه مستقل يستطيع تطبيق هذه القوانين ويفرض سيادتها على المجتمع والأفراد والدولة.

العدالة كمصطلح لم يغب عن مجاهرة بعض القانونيين والمشرعين بالتغني بها وعن تضمينها لتشريعاتهم ولبعض النصوص، لكن في الواقع يختلف النص عن النية في تطبيقه ويختلف ذلك في بين زمان وآخر وبين جغرافيا وأخرى، فبعضهم يتهرب من تطبيق العدالة وفق منظور ضيق الأفق، بسن قوانين بعيدة كل البعد عن العدالة بحجة عادات المجتمع وتقاليده، بل هو تهرب من التزامات أخلاقية بات لزاماً على كل دولة تبنيها لتطوير مجتمعها بما يحقق العدالة وفق الحقوق التي يفترض أن ينعم بها كل فرد وهذه الحقوق يجب أن تكون متطابقة مع حقوق الإنسان لأنها واحدة لجميع البشر لا تختلف بين دولة وأخرى ومجتمع وآخر وبين حقبة زمنية وأخرى، بل هي واحدة وشاملة لجميع البشر، وهذا يدعونا للتطرق لمفهوم العدالة التي ينتظرها الشعب السوري بعد معاناة مع الظلم عبر عقود من حكم سلطة طغت وتجبرت على كل الأعراف والأخلاق البشرية والإنسانية.

لا يمكن حل المعضلة السورية، دون تطبيق القوانين العالمية العادلة التي تعيد للشعب السوري جزءاً من حقه بالقصاص من المجرمين والتعويض العادل عما لحقه من ضرر مادي ومعنوي وذلك بموجب، قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العام وقواعد حقوق الإنسان.

لا يمكن بناء سلام مستدام دون تطبيق القوانين العادلة وإنصاف الشعب السوري لذلك كانت فكرة العدالة الانتقالية هي الأمثل لمعالجة مأساة الشعب السوري.

دون محاكمة عادلة لمجرمي الحرب السورية لن ينعم الشعب السوري بالسلام المستدام.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني