fbpx

السوريون بين ثورة الحرية ووباء الكراهية

0 144

تحت وطأة الحكم البعثي والأسدي في عهدي الأب والابن، ولنحو نصف قرن من حالة الطوارئ والأحكام العرفية، في ظل نظام الحزب الواحد وسطوة وتوحّش أجهزة أمنية تحصي على الناس أنفاسهم، حُرِم السوريون – من جملة ما حُرِموا – التعبيرَ الحرّ عن آرائهم. فكان من المنطقي، والحال على ما هي، أن يتصدّر مطلب الحرّية قائمة أهداف الثورة السورية في آذار (مارس) 2011.

كانت صرخة “حرّية، حرّية” أوّل ما أطلقته حناجر السوريين في تظاهراتهم الأولى، كما هتفوا “الشعب السوري مو جوعان”، للتأكيد أنها ليست ثورة جياع بل من أجل الحريّة والكرامة، ردّاً على محاولاتٍ مبكرة من النظام لاحتواء الشارع المنتفض عبر رشوته بزيادة على الرواتب والأجور. اتسع نطاق التظاهرات الشعبية السلمية وانتشرت ظاهرة “التنسيقيات” في مختلف المدن والمناطق، فأبدع شبّان الثورة وشابّاتها في التعبير عن أهدافهم بأشكال مميزة ومظاهر احتجاج حضارية، عبر الكتابة والموسيقا والرقص والغناء والفنون.. لكن إلى حين. فالمفارقة المرّة أنّ أعداداً كبيرة من الذين أُجبروا على الصمت زمناً طويلاً، ما إن أُتيحت لهم الفرصة واستطاعوا التعبير عن أفكارهم وتطلّعاتهم وأحلامهم بحرّية، حتى أطلّت الكراهية المقيتة برأسها لتنفث سمومها وتشوّه خطاباتهم.

ذلك أنّ خمسين عاماً من الكبت المتزايد، والتكاذب الاجتماعي المرعيّ بالقمع المنظم وتعميم الرعب على الجميع، فضلاً عن تفخيخ المجتمع وحقنه بالشحن الطائفي والقومي الممنهج على طريقة “فرّق تَسُد”، ما كانت لتمرّ من دون أن تحفر عميقاً في جسد مجتمع اعتلّ بفعل الاستبداد المديد. أضف إلى ذلك الاستراتيجيات الدنيئة التي انتهجتها السلطة الأسدية لقمع الثورة، عبر ضرب فئات المجتمع بعضها ببعض وتغذية التطرّف والتطرّف المضاد لحرف الصراع عن مساره، والتعمية على التناقض الأساسي بين عموم السوريين وبين نظام سارق مستبدّ قاتل. ومع الفظائع المهولة التي ارتكبتها قوّات الأمن والشبيحة بحق المدنيين في المناطق المنتفضة، ثمّ ظهور ميليشيات طائفية مسلّحة نبتت من بين شقوق النسيج الاجتماعي المهترئ، اجتمعت ظروف نموذجية لتوليد الكراهية أو تفجير الكامن منها، وهي ستزدهر لا محالة في أوضاع مؤاتية كهذه.

الأمثلة أكثر من أن تُحصى لدى “الأكثرية” و”الأقلّيات” على السواء؛ من تحميل “العلويين” وزر جرائم النظام، إلى وضع “المسيحيين” في خانته، ومروراً باتّهام “الدروز” و”الإسماعيليين” بتذبذب مواقفهم حيال النظام والمعارضة معاً، وصولاً إلى التشكيك المستمر بسوريّة “الأكراد” ووطنيّتهم، ودائماً اتّهام جميع من سبق لـ”السنة” بالتكفير والإرهاب. كلًّ من هذه المواقف ينطوي على إحدى السمات الرئيسية في خطاب الكراهية: التحامل.

والتحامل، كموقف عاطفي انفعالي حيال فئةٍ محدّدة، يقود إلى سوء التقدير وإطلاق أحكام جامدة، قطعية، وغير عقلانية، حيث يتمّ انتقاء مسائل معيّنة (واقعيّة مضخّمة أو مختلقة لا أساس لها) والتركيز عليها، والتعامي عن حقائق ووقائع أخرى بشكل متعمّد، بغية إضفاء صورة نمطية على مجموعات بأكملها. هذا يؤدّي إلى النظر نحو أفراد جماعة معينة ككتلةً صمّاء، ثابتة الجوهر، متماثلة العناصر. وغالباً ما كانت حملات التراشق اللفظي في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً، تتزامن مع تراشق ناري على أرض الواقع، مما أكسب خطاب الكراهية زخماً ودفعاً كبيرين، لا سيما وأن أساليب الكذب والافتراء والتلاعب بالعقول وتزوير الحقائق، أصبحت ممارسة يومية يقوم بها الجميع ضدّ الجميع، حتى بات التخاطب بين السوريين المختلفين موبوءاً بالكراهية التي غدت “ثقافة” مهيمنة، تتجلّى في تمجيد الذات وشيطنة “الآخر”.

وإذ حرص كل فريق على إثارة مخاوف “جماعته” من “الآخر” باستمرار، ازدادت القناعة بضرورة حمل السلاح لقتال “الآخر/العدو” حتى النهاية في معارك عبثية لا طائل منها، فالخوف” كفيلٌ بتحويل الإنسان إلى حيوان مفترس”، على ما كتب أحد الفلاسفة. ومع مرور الوقت لم تعد “قيم” الحرب المشبعة بالكراهية مقتصرةً على المقاتلين المنتشرين على خطوط التماس وجبهات القتال، بل تغلغلت في أوساط العامة واستوطنت أذهانهم. هكذا راح الحس النقدي يضمر، وأصبحت الجرائم والانتهاكات بطولات والتعصّب فضيلة، ولم يعد السلوك الفاشي استثناءً بل سياسةً ممنهجة لم يتوانَ عنها أحد (مع حجم الممارسات تبعاً للإمكانات)، بهدف النيل من”جماعات” بأكملها، حيثُ يُعاقب أفرادها على “تهمة جماعية” أُلصقت بهم نتيجة الضخ المتواصل لخطاب الكراهية، والذي تتفاقم خطورته وآثاره الفتّاكة حين يصدر عن مجموعات منظّمة تعي ماذا تفعل، ولديها القدرة على التأثير في الإعلام والفضاء العام.

من المؤكّد أنّ ما سبق لا يعبّر عن حال السوريين جميعاً، ولا يعني أنّ الكراهية أطبقت على عقولهم وقلوبهم دون استثناء، فالمخلصون الواعون من المؤمنين بأهداف الثورة الأولى، النابذين للكراهية والمتمسّكين بحلم سوريا الحرة لكل السوريين ليسوا قلّة، لكنّهم الأضعف تأثيراً في الظروف الحالية. لكنّها إضاءة لا بدّ منها على الجانب القاتم من المشهد، والذي ينبغي التفكير جدّياً في سبل التعامل مع آثاره المستقبلية، فالكراهية لن تزول بين ليلة وضحاها حتى بعد خلاص البلاد من الطغمة الأسدية.

لعلّ من المفيد التوقّف هنا عند “استراتيجية وخطة عمل الأمم المتحدة بشأن خطاب الكراهية”، التي أعلن عنها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 18 حزيران (يونيو) 2019، وتهدف إلى “تعزيز جهود الأمم المتحدة لمعالجة الأسباب الجذرية للخطاب الذي يحض على الكراهية، والتي تشمل العنف والتهميش والتمييز والفقر والإقصاء وعدم المساواة وانعدام التعليم الأساسي وضعف مؤسسات الدولة”. فقد أكّد غوتيرش أنّ التصدي لخطاب الكراهية لا يعني تقييد حرية التعبير أو حظرها وإنما “منع تصعيد خطاب الكراهية بحيث يتحول إلى ما هو أشد خطورة، وخاصة إذا بلغ مستوى التحريض على التمييز والعدوانية والعنف”.

لذا يجبُ في المرحلة الانتقالية وما سيتلوها عند سنّ القوانين التي تمنع خطاب الكراهية، توخّي الدّقة في تحديد المقصود بالتحريض على الكراهية ومعايير تجريمه في القانون، لأنّ المرونة أو استخدام عبارات فضفاضة يمكن أن تؤدّي إلى التعسّف في استعماله على حساب حرّية التعبير. ولأهمية هذه النقطة، فإنّ لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، في تعليقها العام رقم 34 تاريخ 12 أيلول (سبتمبر) 2011، الفقرة 48 منه، أكّدت أنه لا يجوز لقانون حظر خطاب الكراهية “أن يميّز لصالح دين أو أديان أو نظم عقائدية معينة أو ضدها، أو لصالح أتباعها ضدّ أتباع دين آخر أو لصالح المؤمنين بدين ما ضد غير المؤمنين. ولا يجوز أن تستخدم حالات الحظر تلك لمنع انتقاد الزعماء الدينيين أو التعليق على مذهب ديني أو مبادئ عقائدية أو المعاقبة عليها”.

مساهمة الاستاذطارق عزيزة  في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية”, التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي وتمّ نشرها في صحيفة نينار برس بالاتفاق مع الأستاذ طارق عزيزة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني