fbpx

الريف والمدينة بين الذهنية وتهافت المفاهيم

0 450

على ما يبدو ما زلنا حتى اللحظة غير قادرين على التفريق ما بين الذهنية المدنية والذهنية الريفية، كنهج فكري اجتماعي، وبين المدينة والريف ديموغرافياً.

ففي الحالة الديموغرافية السورية عموماً، تختلف التركيبة الاجتماعية الريفية عن قريناتها في دول العالم المتقدمة/المتمدّنة. فالمجتمع الريفي السوري في الأصل مؤلّف من جماعات بدويّة ترك أفرادها حياة التنقّل وكسب قوتهم بالرعي والغزو ليستقروا لاحقاً في بيوت حجرية ثابتة ويمتهن غالبيتهم مهنة الزراعة، أما العادات والأعراف وطبيعة العلاقة بينهم فبقيت عشائرية/قبلية صرفة، باستثناء بعض أرياف الساحل والمنطقة الوسطى التي تختلط فيها الأعراف العشائرية مع المذهبية، وقرى الجزيرة السورية حيث تختلط بالقومية عند بعضها.

وإذا ما نظرنا للمدينة السورية، سنرى بأن غالبيتها عبارة عن تلك القرى التي ذكرناها سالفاً – من ناحية التركيبة والأعراف – لكنها أكبر حجماً ويعيش أفرادها ضمن تخطيط حضري أكثر تطوراً (بنى تحتية وفوقية ومؤسسات حكومية وهلم جرا). وحتى عملية استثناء مدن بعينها من تلك الغالبية يبدو صعباً بعض الشيء، فبالنسبة للعاصمة دمشق وفي حلب على سبيل المثال، نلاحظ توفراً محدوداً لمظاهر مدنيّة لدى بعض الطبقات والمكونات والأحياء وافتقارها في أخرى، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على حمص وحماة وبقية المدن الكبرى ولكن بدرجة أقلّ.

وللدقة، وما زلنا نتحدث هنا في الجانب الديموغرافي، لا توجد في سوريا حالة ريفية خالصة وأخرى حضرية كي نجري تمايزاً أو مقارنة بينهما. وفي حال رغبنا في المقارنة بين الحالتين فيجب علينا النظر هنا إلى (الذهنية الفكرية) لا الاجتماعية أو الجغرافيّة.

ففي سوريا من الطبيعي أن نجد أفراداً وجماعات يتعاطون مع المحيط وفقاً لـ (ذهنية) مدنيّة تتحكم بطبيعة علاقاتهم ورؤيتهم للحياة والكون والفن، بالرغم من انتمائهم السلالي لعشيرة أو مذهب أو قومية. وينتشر هؤلاء داخل كلا الجغرافيتين، الريفية والحضرية. 

ونجد بالمقابل أفراداً وجماعات تتحكم بهم (ذهنية بدائية) تتصف بنزعة فئوية عصبوية وشعبوية، سواء كان منشؤها عشائرياً أم مذهبياً أم مناطقياً أم عرقياً، وهي الذهنية النقيضة للمدنية لكنها توازيها من حيث انتشارها داخل الجغرافيتين أيضاً.

الأمثلة عن الذهنيتين كثيرة في سوريا، ففي اللاذقية المدينة مثلاً نجد في أجزاء منها مكونات تتعاطى بذهنية فئوية طائفية واجتماعية، وكذلك في جزء من السويداء وفي حمص وحماة. أما في أجزاء من الحسكة ودير الزور والرقة مثلاً فنجدها تتعاطى بذهنية فئوية عشائرية أو قومية.. الخ. 

وبالمقابل، تهيمن الذهنية المدنية على أجزاء واسعة من مناطق الريف السوري: في كفرنبل مثلاً، وفي موحسن ومعرة النعمان وعامودا وسلمية وريفها.. إلخ.

وانطلاقاً من هذا المبدأ، يحق للسياسيين والمفكّرين والإعلاميين والكتّاب السوريين، الكتابة في هذا الشأن وطرح ما يشاؤون من مقارنات وتحليلات ووجهات نظر. أما حين يتناولون المسألة من جانبها الديموغرافي أو الجغرافي فقط، فهي سَقْطَة خطيرة من شأنها أن تصنّفهم ضمن خانة أصحاب الذهنية البدائية أنفسهم.

من جهتي، أظنّ وأدّعي بأن التعبير قد خان كلّاً من السياسي سمير نشّار والإعلامية ميساء آقبيق خلال كتابتهما لمنشوريهما اللذان أثارا “الأزمة” الأخيرة بين الريف والمدينة، وسأفترض بأنهما لم يقصدا الديموغرافيا والتوزع الجغرافي بقدر ما قصدا الذهنية البدائية التي أشرنا إليها.

بالنسبة لمنشور نشّار، الذي تضمّن وصفاً لأشكال الاحتجاج عند المدنيين “التظاهر والاعتصام والعصيان المدني” مقابل احتجاج الريفيين المتمثل بأسلوب “حمل السلاح فقط”، فقد استهله بطرح مفهوم الفرق بين الذهنية الريفية والمدنية كدلالة على اختلاف في النمط الفكري والوعي الاجتماعي، وهي بداية جيدة؛ إلا أنه عاد ليكرّس الحالة الديموغرافيا والمناطقية للأسف بذكره لعبارة الاحتجاج “بالريف” بدل أن يقول: الاحتجاج “الريفي” أو “الفئوي” أو البدائي”، إذ فهمها المتلقّون بأنها إشارة واضحة لمناطق جغرافية لا لذهنية أو نمط فكري، بالإضافة إلى أن منشوره كان معمّماً وخالياً من أسلوب التخصيص.

ولا علم لي حقيقةً إن كان نشار قد تقصّد التحديد الجغرافي في طرحه أم أن اللغة قد خانته دون أن ينتبه. فإن كان متقصداً التحديد، ولا أظنّه كذلك، فهذا يدلّ على قصر واضح في رؤية المشهد الثوري السوري. فالتظاهرات السلمية والاعتصامات شملت شتى قرى وأرياف ومدن المحافظات السورية، ولم تأخذ أبعاداً فئوية بالمطلق بل ساد مفهوم الذهنية المدنية/المواطَنة، بين مشاركيها، بصرف النظر عن أصولهم ومناطقهم. 

وبرزت بالمقابل فئات تبنّت سلوك التخريب والاعتداء وتشويه مسار الثورة وقيمها، مدنياً وعسكرياً. وتلك الفئات أفرزتها جغرافيا الريف والمدينة على حد سواء، لكنها تفتقر إلى الذهنية المدنية التي عرجنا عليها.

وعلى أية حال، بالنسبة لي شخصياً، أستبعد قصر النظر عند نشّار وبالتالي سأتبنى فرضية خيانة التعبير.

في منشور ميساء آقبيق، هناك اختلاف واضح في الطرح والمضمون مقارنة بمنشور نشار؛ إذ استخدمت آقبيق أسلوب (التبعيض) والبدل في طرحها، حين أوردت بوضوح كلمة “بعض” قبل عبارة “أبناء القرى”، وهذا ما لم يتنبّه له الكثيرون؛ أو لنقل بأن بعضهم تعمّد عدم الانتباه لصيغة البدل تلك، بقصد تعميم الطرح لدى الكاتبة ليشمل جميع أبناء القرى والأرياف السورية ونعتهم بالجهل وعدم المسؤولية وافتقارهم للحَسَب وللحياة الكريمة، وهذا مناقض لمنشورها.

ولن ندخل في الدوافع والغايات الشخصية لبعض الأطراف في تجييش السوريين ضد آقبيق ومنشورها الإشكالي وتحويله لقضية رأي عام عبر نشرهم عريضة اتهام أقل ما يقال عنها بأنها مجحفة وبالغة الإساءة، بالرغم من سحب آقبيق لمنشورها وتقديم اعتذار عنه.

وفي كلا الحالتين/المنشورين، وبصرف النظر عن نيّة الكاتبين وتأويلات المتلقّين؛ أبرزت غالبية ردود الأفعال مؤشراً خطيراً لا يهدّد مستقبل المواطَنة بين السوريين فحسب، بل ويهدد المدنية السورية وذهنيتها داخل الريف والمدينة معاً مقابل تنامي الذهنية الفئوية، وبتنا اليوم بأمسّ الحاجة لإعادة ترتيب مفاهيمنا وتدقيق حروفنا قبل أن نطلقها كسهام عشوائية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني