fbpx

الروابط الإحالية ودورها في إنتاج الدلالة النصية
قراءة في قصيدة “لن أبكي” لفدوى طوقان

0 479

* إهداء إلى الأستاذ الدكتور/إبراهيم خفاجة

إذا كانت اللغة هي مادة الشعر، فإنه يتميز عنها بخصائص جمالية وفنية تجعل منه عملاً إبداعياً متكاملاً ومعبراً عن الانفعالات والمشاعر النفسية العميقة، فالنص يُنتج معناه بحركة جدلية لا تتمثل في الانتقال من الجزء إلى الكل وإنما بالتكييف الدلالي للأجزاء في ضوء البنية الكلية الشاملة للنص.

ومن ثم يأتي التعامل مع الضمائر كروابط إحالية، إذ تؤدي مهمتها بالإحالة لكونها كناية عن صاحبها (متكلم أو مخاطب أو غائب)، حيث تصبح بنية النص سبيكة متلاحمة العناصر نتيجة لعوامل الربط الظاهرة والمستترة، المنفصلة والمتصلة، ويصبح الضمير حينئذ واحداً من الروابط التي تجمع الأدلة اللغوية في بنية النص؛ لهذا كانت دراستنا للضمائر ـ بوصفها وحدة أسلوبية ـ في قصيدة “لن أبكي” لفدوى طوقان؛ وذلك لمعرفة مدى تعامل الشاعرة معها، وكيفية توظيفها في بنية النص.

أ- ضمائر المتكلم:

اعتمدت الشاعرة على ضمير المتكلم بوصفه أحد وسائل الأداء الإبلاغي، وجعلت منه مرتكزاً حوارياً يصنع تواصلاً بينها وبين المتلقي، كما اتخذته وسيلة للتضافر الأسلوبي الذي يجعل من النص وحدة متماسكة، وإذا كنا نبحث عن ضمائر المتكلم في شعر “فدوى طوقان” فليس معنى ذلك استقلالها عن قضايا الواقع حولها، بل إنها تتوحد بها لتكون “الأنا” تعبيراً عن هموم الفرد/المجتمع بأقنعة مختلفة يلعب فيها الآخر دوراً لا يقل أهمية عن دور الذات.

على أبواب يافا يا أحبّائي

وقفتُ وقلتُ للعينين

أحبّائي

مسحتُ عن الجفون ضبابة الدمعِ الرماديهْ

لألقاكم وفي عينيَّ نور الحب والإيمان

فوا خجلي لو أنّي جئت ألقاكم

وجفني راعشٌ مبلول

وقلبي يائسٌ مخذول

وها أنا يا أحبّائي هنا معكم

لأقبس منكمُ جمرة

لآخذ يا مصابيح الدّجى من زيتكم قطرة

لمصباحي

وها أنا أحبّائي

إلى يدكم أمدُّ يدي

وعند رؤوسكم ألقي هنا رأسي

وأرفع جبهتي معكم إِلى الشّمسِ

فكيف الجرح يسحقني؟

وكيف اليأس يسحقني؟

وكيف أمامكم أبكي؟

يميناً، بعد هذا اليوم لن أبكي 

أحبّائي حصانُ الشعبِ جاوز

كبوةَ الأمسِ

أحبائي مصابيحَ الدّجى، 

يا إخوتي في الجرحْ…

على طُرقُاتكم أمضي

وأزرع مثلكم قدميَّ في وطني 

وفي أرضي

وأزرع مثلكم عينيَّ

في درب السَّنى والشّمسْ 

نرصد ضمير المتكلم الذى يفترش مساحة النص باعتباره أكثر الدلالات إيحاء بما في نفس الشاعرة، وهو أحياناً ظاهر في مواجهة الأحداث، وأخرى يطل من خلف الأبنية اللغوية والصرفية (كتاء الفاعل وضمير المتكلمين أو الفعل الماضي أو المضارع ملحقة بهما ياء المتكلم)، مرات ثلاث يتباطأ، وفي أخرى يتسارع.. في أحيان يقف على مطلع الفقرة، في أخرى ينطوي وسطها، ليظل في كل أحواله عاملاً على إطلاق التعبير وتحريره، وممارساً لعبة البوح والاعتراف.

لقد تكرر ضمير المتكلم اثنتين وخمسين مرة، جاء اثنتين وثلاثين مرة للمفرد، وأربع عشرة مرة للجمع (نحن)، وقد أدت دورها كطرف أول يمتلك إمكانية وفاعلية التعامل مع الطرف الثاني من خلال دواله (جبالنا، بلادنا، جباهنا)، وإذا أضفنا إليه الدوال الإشارية المتمثلة في الضمير المنفصل “نحن” في (وراء الفيلق، لن نرتاح، حتى نطرد الأشباح)، فإننا نلحظ نوعاً من التوازن بين الطرفين جاء تعبيراً عن مكنون النفس مستهدفاً سبر أغوار الذات من خلال التركيز على الضمائر. 

إن إلحاح مظاهر الاغتراب على الشاعرة يحاصرها وجودياً، ويدفعها إلى الاحتماء بالآخر، فلا وجود للذات بدون الغير، معنى هذا أن النص يعكس مواجهة داخلية تتنامى أحداثها في جدلية توترية بين الذات والآخر، لهذا جاء الضمير المنفصل “أنا” لتقدم الشاعرة من خلاله الذات تقديماً مفصلاً، في حين جاءت الضمائر المتصلة لترصد خلفية الأبعاد الخارجية المتصلة بالآخر، ما يعنى قصد الشاعرة إلى تقديم الآخر من خلال أناها، إذ هي جزء منه “وها أنا يا أحبّائي هنا معكم”، إنهما يعيشان واقعاً واحداً، ويواجهان مصيراً مشتركاً يستلزم أن تكون “أنا ضمير الجمع لا المفرد”، ولا شك أن توالي الضمائر بهذا الشكل قد عمل على ترابط الدلالة، وإكسابها حيوية وثراءً بحيث تتفاعل الأدلة عن طريق الوصل الحاصل بينها، والتلاحم الحميم بين أطرافها.

يتداخل الضمير “نحن” مع الضمير “أنا” في بنية النص، فمرة يأخذ الضمير “أنا” دلالة “نحن”، وأحياناً يأخذ الضمير “نحن” دلالة “أنا”.

وها أنا أحبّائي

إلى يدكم أمدُّ يدي

وعند رؤوسكم ألقي هنا رأسي

وأرفع جبهتي معكم إِلى الشّمسِ

وهذا يعنى مشاركة الذات الجماعة قضاياها، والتوحد معها على مستوى التعبير، حيث تتجسد رؤية الشاعرة لواقعها، ومن ثم يكون التعامل مع الخارج نابعاً من الوعي الداخلي بأبعاده.

نلاحظ في القصيدة عناية الشاعرة بزمن الحضور في رصد دلالة ضمير المتكلم، إذ هو مصدر هموم الذات الخاصة والعامة فالمؤشرات الصياغية (أقبس، آخذ، أمدُّ، ألقى، أرفع، أمضي، أزرع…) تتردد في هذه الدفقة الشعورية لتعمل على تعلق الدلالة الشعرية بزمن الحضور في السلب والإيجاب، وأهمية الضمير تتمثل في إتاحة الفرصة للمشاركة في صنع الأحداث والسمو بها من منطقة الواقع إلى منطقة الحلم، بتجاوز اللحظة الآنية إلى لحظة أخرى قادمة في المستقبل.

مسحتُ عن الجفون ضبابة الدمعِ الرماديهْ

لألقاكم وفي عينيَّ نور الحب والإيمان

بكم، بالأرض، بالإنسان.

وثمة إشارة إلى دور الضمير في ترابط الدلالة على مستوى النص، خاصة عند الانتقال من التكلم إلى الخطاب في السطر الثاني، وهذا الانتقال يمثل نوعاً من الالتفات يثري ذهن المتلقي ويقوي صلته بالدلالة، فضلاً عن الحوارية التي تزيد المعنى ثراءً ونماءً.

2- ضمائر المخاطب:

يأتي تعامل الشاعر مع الضمائر وإيثار أحد أنواعها خضوعاً لمقتضيات التجربة النفسية والدلالية، ومن ثم جاء ضمير الخطاب ليؤدي دوره في تشكيل الدلالة، حيث تخرج الذات الناطقة عن حالة الإفضاء الداخلي (في غيبة مخاطب حقيقي حاضر في النص) فتنتقل من توجيه خطاب ضمني/محتمل إلى خطاب حقيقي، تستحضر فيه مخاطباً تلقى إليه برسالتها وتتحاور معه. 

وها أنا يا أحبّائي هنا معكم

لأقبس منكمُ جمرة

لآخذ يا مصابيح الدّجى من زيتكم قطرة

لمصباحي

إلى يدكم أمدُّ يدي

وعند رؤوسكم ألقي هنا رأسي

وأرفع جبهتي معكم إِلى الشّمسِ

وها أنتم كصخر جبالنا قوَّة..

كزهر بلادنا الحلوة

فكيف الجرح يسحقني؟

وكيف أمامكم أبكي؟

إن انفتاح الحلم قد استدعى حضور الذات المخاطبة بضمائرها المتصلة سبع مرات، لتشكل البنية في إطار رومانسي حالم حيث يصير الكلام صيغة من صيغ البوح، ووسيلة من وسائل التنفيس عن طاقة مكبوتة. هذا إلى جانب دور الضمائر في ربط بنيات النص ولم شتات تراكيبه في وحدة أسلوبية تتآزر جزئياتها في سبيل إبراز دلالته الكلية.

ونتيجة لذلك تتفجر الدلالة من أعماق الذات التي تطرح سؤالها على الموضوع/المخاطب: 

فكيف الجرح يسحقني؟

وكيف اليأس يسحقني؟

وكيف أمامكم أبكي؟ 

فإن كانت البلاد ترسف في أغلال الاحتلال فاقدة كبرياءها، فمازالت تهيم برؤياها العيون وتتراءى أمام ناظريها أطياف الشهداء، ولو كانت هي مصدر جرحنا – الآن – فستكون مبعث فرحنا غداً حين تعود إلينا ونعود إليها.

3- ضمائر الغائب:

في إطار توظيف الشاعرة لبنية الضمائر كرابط إحالي يجمع تراكيب النص، استخدمت ضمائر الغائب مستغلة إمكانياتها التعبيرية باعتبارها بنية خلافية في ضوء بنية الحضور.

إن استخدام الشاعرة لضمير الغائب (مفرداً/جمعاً) يتيح اتساع القيمة التعبيرية للأداء اللغوي، حيث تتمكن الشاعرة من الولوج إلى أعماق البنية وسبر أغوار الدلالة من خلال تسليط الضوء على ذلك الغائب، ومن ذلك قول الشاعرة: 

على أطلال من رحلوا وفاتوها

تنادي من بناها الدّار….

وتنعى من بناها الدّار

هنا كانوا..

هنا حلموا..

هنا رسموا مشاريع الغدِ الآتي

فأين الحلم والآتي وأين همُ.. وأين همُ؟

تساهم ضمائر الغائب – هنا – في دفع فعل السرد/القول تجاه الحدث من خلال ارتباطها بتفصيلات تعمق أبعاده، وتزيد القارئ معرفة بملامح التجربة النفسية، وتجذبه لمتابعة مرجع هذا الضمير الغائب صاحبه عن الصياغة.

لقد تكرر ضمير الغائب إحدى عشرة مرة، ظاهراً ومستتراً، حيث أن مجيء الضمير مقدراً في بنية الفعل يمثل دعوة مباشرة للمتلقي بالتعامل مع الصياغة وتحديد خط السير فيها.

في ضجة الذكريات تلملم الشاعرة هواجسها، تحاور نفسها، وهذا “المونولوج الداخلي” الذى تستدعيه بالاستفهام يتيح لها استدعاء المواقف التي استأثرت به، تلك المواقف التي تضطرم في أغوار الذات، فأين الحلم والآتي وأين همُ.. وأين همُ؟ لا مجيب فلم يرد سوى حطام الدار، ولم ينطق هناك سوى غيابهمُ، وصوت الصمت في كل مكان.

لقد جاءت الشاعرة بمرجع الضمير محدداً في بداية النص، وقامت هي بالإخبار عنه، لكون القصيدة ذات طابع سردي لا يستطيع أن يمضي قدماً دون العناية بحركة الضمائر وتماهيها وتبادلها في نسيج النص.

فقامت الشاعرة بدور الراوي الذي يحكي الأحداث بوصفه مشاركاً/معاصراً/شاهداً لها على نحو ما، ولا تكاد تخلو قصائد هذا النمط من سرد يتصاعد من خلاله الحدث، وتتبلور في طياته الفكرة، ومن ثم يكثر السرد بضمير الغائب، من ذلك قولها:

أحبّائي حصانُ الشعبِ جاوز

كبوةَ الأمسِ

وهبَّ الشهمُ منتفضاً وراء النهر

يصهلُ واثق النهمة

ويفلتُ من حصارِ النحسِ والعتمة

ويعدو نحو مرفئه على الشمس

وتلك مراكبُ الفرسانِ ملتمة

تباركه وتفديه

ومن ذوب العقيق 

ومن دم المرجان تسقيه

ومن أشلائها علفا

وفير الفيض تعطيه

إن تحديد مرجع الضمير – هنا – أدى إلى “تقلص دور المتلقي إلى مجرد رد الضمير إلى مرجعه، ثم تحسس حركته داخل الخطاب، ومدى مساهمته في إنتاج الدلالة.

هذا، وإن كان الغائب ليس إلا وجهاً آخر لذات الشاعر، إذ غاب صوته تماماً عن التجربة، يؤيد ذلك أيضاً استبطان الشاعر لملامح ذلك الغائب (الحصان) رمز القوة، كيف لا وهو حصان الشعب، من خلال عدة جمل فعلية تقريرية في إطار الزمن المضارع الذى يعد مبعث تجربته، إلى جانب دوره في إثراء الفاعلية الشعرية للنص، إذ أصبح الضمير المستتر محوراً تجمعت حوله الدلالة صادرة منه وعائدة إليه، كما كان مستجمعاً لكل عناصر التجربة “يصهل، يفلت، يعدو”.

وبذلك يعد الضمير رابطاً لحالات شتى ومشاعر متفرقة من خلال الشعور المستدعى لها من أغوار الذاكرة، حيث يعبر عن الذات في نمط ثنائي يشطرها نصفين يحاور كل منهما صاحبه، أو يكون حاكياً عنه ليخرج ما بداخله، ويضعه أمام المتلقي ليشارك فيه على المستوى التقديري. 

معنى ذلك أن الشاعرة تلجأ إلى استخدام ضمير الغائب لتصوير أبعاد تجربتها النفسية وتفرق أفكارها بحياد وعفوية، من خلال قيامها بدور القاص إذ تنطق بلسان الراوي عندما لا تستطيع الهروب من صوتها لانصهاره بتجربتها وتسربه إلى أعماقها. وهذا ما حمَّلَ القصيدة أجواء دراميَّة مشحونة بالقلق والتوتُّر.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني