fbpx

الدولة والصلح العشائري

0 211

يساهم الفضاء الإلكتروني العربي في تسليط الضوء على العديد من الجرائم المخزية التي تحدث على امتداد المنطقة العربية، لدرجة قد يصعب علينا متابعة حيثياتها جميعها، غير أن متابعة جزء بسيط من هذه الجرائم الكبرى يكشف عن جذور الخلل القانوني والأخلاقي والمفاهيمي، الذي ساهم في تمادي الإجرام واستمراره بحق الفرد والمجتمع والدولة على حد سواء. فقد أحدثت الجريمة المرتكبة في مدينة الزرقاء الأردنية مؤخراً موجة عارمة من السخط والغضب الأردني أولاً، والعربي ثانياً، وكذلك حصل مع جريمة اغتصاب الطفل السوري في لبنان وتصوير الجناة لفعلتهم البغيضة، كما في جريمة قتل فتاة المعادي في مصر، بالإضافة لجرائم العنف الجسدي والجنسي بحق العديد من نساء فلسطين وسورية والدول المغاربية.

لكن، ورغم موجات الغضب والسخط الشعبي على مجمل هذه الجرائم؛ التي أجد صعوبة بالغة في وصف مدى بشاعتها وفظاعتها؛ إلا أننا لم نشهد في أي منها أو على الأقل في جزء كبير منها حرص الدولة المعنية على تطبيق معايير العدالة والمحاسبة القضائية حقاً. فدائماً ما تبع نشر مقاطع الفيديو الخاصة بأي من هذه الجرائم، أو نشر تفاصيل الجريمة كتابياً، اهتمام إعلامي ورسمي بتفاصيل الواقعة، ومسارعة الأجهزة المعنية القضائية والأمنية ممثلة بالشرطة وقوى الأمن الداخلي إلى متابعة حيثيات القضية واعتقال الجناة أو المشتبه بدورهم فيها. بيد أن الطامة الكبرى كانت ومازالت في قبول الدولة لاحقاً ممثلة بأجهزتها المعنية بطوي صفحة هذه الجرائم والسماح للمجرمين بالإفلات من مسؤولية أفعالهم الشنيعة تلك (أو التقليل من حزم الحكم)، استناداً إلى مصالحات عشائرية وعائلية وجهوية تنتهي بدفع الجناة لفدية مالية متفق عليها لصالح عائلة الضحية أو للضحية ذاتها.

وهو ما يشي بكارثة وطنية وإنسانية، فعلى المستوى الإنساني من الواضح كيف تعمل المصالحات العشائرية والجهوية على عدم محاسبة الجناة لاعتبارات اجتماعية فارغة، تنتصر لمنطق القوة الاقتصادية والمالية أو المكانة الاجتماعية على حساب منطق الحق والعدالة والمساواة، كما تتيح هذه الآلية المجحفة للمجرمين الاستمرار بذات النهج الإجرامي مرة تلو الأخرى لغياب المحاسبة أو لتخفيفها. أما وطنياً فنحن أمام كارثة بكل معنى الكلمة لاعتبارات عديدة قد يكون أولها الحط من قيمة الدولة ودورها، فكيف لدولة تحترم ذاتها قبل أن تحترم مواطنيها أن تقبل الرضوخ لسلطة عشائرية أو جهوية ضلت طريق العدل والحق، لتغض النظر عن جريمة موثقة ومثبته مئة بالمئة كالجرائم التي تم توثيقها بالصوت والصورة، أو تلك التي اعترف الجناة بها فخراً واعتزازاً برجولتهم المزعومة، أو بجبروتهم الطاغي.

إذ لا يدرك القائمون على دولنا أن الإنسان هو ثروة الأوطان الأولى والأغلى، وهو بصفته الفردية والجماعية استثمارها الأهم، فهو العالم والمزارع والطبيب والعامل، ومن دونه تفشل الدولة في تحقيق إنجاز بأي حقل كان، وعليه فإن دور الدولة الأهم والأبرز بل وواجبها أيضاً، هو حمايته وصيانته وتهيئة الظروف المناسبة لإنضاج إمكانياته أولاً، قبل استثمارها بالشكل والمكان المناسبين ثانياً. لذا فإن أي فعل مقصود من أي شخص كان يؤدي إلى فرض أذية جسدية أو نفسية بأي مواطن مهما كان تموضعه الطبقي ومستوى تحصيله العلمي وفئته العمرية أو الجندرية، يجب اعتباره عملاً تخريبياً يطال ثروة الوطن الأهم والأغلى أي الإنسان. وهو ما يجب أن يفرض على الدولة تطبيق أعلى درجات العقاب والمحاسبة لمرتكبي هذه الجرائم القذرة، كالاعتداءات الجسدية والجنسية المقصودة.

حيث تحدث هذه الجرائم إعاقات وأمراضاً جسدية ونفسية مزمنة لا يمكن التخلص منها بسهولة، إن كانت قابلة للشفاء والعلاج أصلاً، كما أن محاسبة ومعاقبة الجناة والمجرمين عنها هي الخطوة العلاجية الأولى لهم ولمجمل المجتمع، فتبعات هذه الجرائم تتجاوز حدود الضحية ووسطها الاجتماعي لتطال مجمل مكونات المجتمع، الذي يقبع تحت فوبيا انتقال الجريمة من بلدة إلى أخرى ومن شارع ومنزل إلى آخر، وهو ما يهدد أمان واستقرار المجتمع بأكمله، لينعكس على طاقات المجتمع وإمكانياته سلباً، وعلى ثقته بالقضاء ومجمل السلطة التنفيذية والتشريعية أيضاً، كما يفترض بالدولة تحمل مسؤولية علاج واستشفاء ضحايا هذا النوع من الجرائم خصوصاً، وفق قاعدة أولوية إعادة تأهيل الضحية وثانوية تكلفتها المادية، بل وتكاليف إعادة تأهيل الضحايا نفسياً واجتماعياً وعلمياً ومهنياً وفق إمكانياتهم وقدراتهم وميولهم، لأن الدولة مسؤولة بشكل غير مباشر عن تمادي المجرمين وتجرؤهم على هذا الفعل الوحشي، وانطلاقاً من اعتبار الفرد ثروة وطنية يقع على عاتق الدولة تأهيله وتمكينه حتى يرفد خزينة الدولة ويساهم في دفع عجلة التطور الوطني. وهو ما يفرض على الدولة التعامل مع هذه الجرائم باهتمام بالغ يرقى لمستوى تبعاتها، وأن تحاسب الجناة وكل من ساهم في الجريمة بأعلى درجات الحزم والعقاب، كي تَحول دون استمرار المجرمين بجرائمهم، ومن أجل أن تردع الآخرين عن مثل هذه الجرائم.

وأخيراً أعتقد أنه من الضروري إحداث تعديلات تشريعية عاجلة لمثل هذه الحالات التي تسبب إعاقة وأذى جسدياً أو نفسياً، تتجسد في اعتبارها جرائم وطنية لا يملك الأفراد حق التنازل عنها والعفو عن المجرمين ما قد يساهم في طوي صفحة الجريمة كلياً أو تخفيف العقوبة. بل على العكس وكونها قضية وطنية عامة فمن حق أي مواطن الإبلاغ عن هذه الجرائم، فهي ترتكب بحق المجتمع والدولة، ونتائجها السلبية تطالهما على حد سواء. لذا لا يجوز أن تسقط هذه الجرائم نتيجة مصالحة عشائرية أو جهوية، أو بحكم خشية الضحية أو عائلته من جبروت وسلطة عائلة الجناة، أو لاعتبارات مادية بحتة تعكس أوضاع الضحية المالية الضحلة. وعندها فقط سوف نشهد تراجعاً ملحوظاً في نوعية وتكرار هذه الجرائم، سواء الممارسة بحق الأطفال والنساء أو بحق أي شخص كان.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني