الدكتور محمد حبش في حواره مع نينار برس: محاكمة التاريخ بأدوات الحاضر لا تُنتجُ نقداً موضوعياً
تناولُ التنوير الإسلامي ووضعه على طاولة النقد الموضوعي مسألة ضرورية، إذ لا يمكن مقاربة أي نصٍ معرفي أو فكري بدون منهج علمي صارم. فحركة التنوير الإسلامي التي بدأت بقراءات نقدية لواقع الشعوب العربية الإسلامية، أرادت تصحيح حال الأمة التي تداخلت فيها عادات وتقاليد ترتبط ببنية مجتمعاتها مع الاجتهادات الدينية في زمن ماضٍ.
ولكن يبقى التنوير وفق الفهم الفلسفي لهذا المصطلح مرتبطاً بإعمال العقل في قضايا فهم الوجود والكون وتطور الحياة في المجتمعات الإسلامية. وهنا لا يمكننا ممارسة التنوير بدون سلطة العقل، فالعقل يستعمل في فهم الظاهرات على اختلافها آليات تحليل وتركيب الظاهرة أو النص، ثمّ يعمد على استنباط قوانينها والعلاقات الجدلية التي تحكم بنيتها، وكيفية التأثير على أنساقها بغية فهمها بصورة علمية والعمل على تطويرها.
اشتمل حوارنا مع الدكتور محمد حبش وهو أستاذ الفقه في جامعة أبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة على طرح تسعة أسئلة، في محاولة لإضاءة الفكر التنويري لديه. ونحن مارسنا في حوارنا أقصى ما يمكن من طرح أسئلة فكرية قد يرى فيها بعض متتبعي التنوير أنها تخرج عن نسق مقاربة النص الديني ونقده.
صحيفة “نينار برس” جزّأت الحوار لسهولة متابعته، وهي ستتابع نشر أجزائه، ثم جمعه بملف واحد تنشره لاحقاً.
السؤال الثاني:
التنوير الأوربي نهض على قاعدة قوة العقل في فهم العالم، أي أنه ابتعد عن اعتماد النص اللاهوتي في ذلك.
هل التنوير الإسلامي هو اجتهاد جديد على النص القرآني؟
وهل يمكننا القول إن التنوير الإسلامي هو نقد الفهم السائد للدين والذي تأسس في زمن الأئمة؟
هل التنوير الإسلامي محاولة لتجميل الفهم الديني على قاعدة نقد الفهم والاجتهاد السائدين؟
مكان العقل في التشريع
يجيب الدكتور محمد حبش وهو أحد المشتغلين على الفكر التنويري الإسلامي على سؤالنا فيقول:
الاعتماد على قوة العقل هو الركن الأساسي في كل قيام، ولا شك أن هذا الاستحقاق كان وراء أول انقسام في المجتمع الإسلامي ، وظهرت على الفور الثنائيات المشهورة: أهل الرأي وأهل الحديث، النص والاجتهاد، النقل والعقل، التأويل والظاهر، المفوضة والمؤولة، الظاهرية والفقهاء، وكان الجدل كله يدور حول مكان العقل في التشـريع، وكان التنوير دوماً يناضل من أجل مكان أكبر للعقل، وأجد من الواجب ان أشير إلى أن الفقه حقق انتصارات كثيرة ولعل أبرزها علم أصول الفقه الذي تجاوز القاعدة السلفية الشهيرة: الدين كتاب وسنة وما وراءه بدعة وضلال، قف على ما وقف عليه الأولون، فإنهم عن علم وقفوا، والدين ما كان فيه قال حدثنا ** وما سوى ذاك وسواس الشياطين!!
ويضيف الدكتور حبش:
وقد استطاع علماء الأصول وضع قواعد للتشـريع استناداً إلى العقل، وفي مرحلة لاحقة أصبحت هذه المصادر قسيمة للكتاب والسنة، وهي الاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع وغيرها، فهذه المصادر الشرعية قادرة على إنتاج الأحكام في التشريع، وهكذا كانت الدول التي نشأت في التاريخ الإسلامي وأسهمت في الحضارة الإنسانية كانت تجد نصوصها وقوانينها من خلال اجتهاد الفقهاء بهذه المصادر، وما كان يترتب عليها من انتصار للعقل على النقل.
إن الفهم السائد للدين والذي حرره الأئمة في القرون الأولى للإسلام ليس خياراً سيئاً، وإن بدا اليوم كذلك، ولكن ظروف الزمان والمكان والعـصـر هي التي تقرر جدوى هذه الأحكام وإيجابيتها
موضحاً رأيه بصورة أشمل:
من حقنا بالطبع أن نوجه النقد للماضي بكل اختياراته، ولكن ينبغي ألا نقع في مطب النرجسية وننصب أنفسنا حكاماً على التاريخ، فمحاكمة التاريخ بأدوات الحاضر لا تنتج نقداً موضوعياً.
العبودية مثلاً نظام قبيح، وقد صار يعتبر اليوم نظاماً إجرامياً، وقد وقعت كل دول العالم بلا استثناء على اتفاقية منع الاتجار بالبشـر، ولكن علينا أن نتذكر أن أمريكا على سبيل المثال خاضت حرباً أهلية ضارية في منتصف القرن التاسع عشـر كادت أن تودي بوحدتها، حيث اصطفت ولايات الجنوب في مواجهة ولايات الشمال وكان العنوان الرئيس هو الدفاع عن العبودية، حيث كانت ولايات الجنوب ترفض بشدة تحرير العبيد، وكان العبيد هم كور الثورة ومادتها، ووقفوا يقاتلون الأفكار الشيطانية التي كانت تدعو لتحررهم وخلاصهم من العبودية والرق، لقد تشبع العبيد بحب العبودية، بعد أن أقنعهم أسيادهم أن تحريرهم يعني أن يصبحوا بلا سيد ولا مأوى ولا معيل، وأنهم سيتحولون إلى هومليس في الشوارع، ومن أجل ذلك قاتلوا بضراوة للدفاع عن عبوديتهم في وجه الإرادات الشريرة لتحرير العبيد!!!
كان ذلك قبل قرن ونيف من الزمان في الأرض الأمريكية التي يفترض انها أكثر بلاد العالم استعداداً للتنوير والانفتاح والحريات.
بهذه المقارنة يتعين أن نعترف بأن تطبيق المعايير المعاصرة على حركة التاريخ لن ينتج قراءة موضوعية مستقلة.
بالنسبة لي ما قام به الأئمة كان جيداً، ولم يكن ديناً موازياً، ولكن تصنيم ما فعلوه في التاريخ، واعتباره إجماعاً يجب اتباعه ولا يجوز الخروج عليه، هو مقتل هذا الجهد الإصلاحي التشريعي الذي قدموه.
السؤال الثالث:
الدين الإسلامي يرتكز في جوهره على النصّ القرآني. والنصّ القرآني هو نصٌّ الله الثابت غير القابل للنقض. وهذا يعني منع العقل من نقده.
هل توافقون علمياً على اعتماد منطق العقل في نقد النص القرآني؟ أم أن هذا النص غير قابل للنقض باعتباره نصّاً من عند الله؟
مسألة خلق القرآن فيصلاً بين تيارين
ربما تكون مقاربة النص القرآني نقديّاً ذات إشكالية تتعلق بدرجة إعمال العقل في النقد. لذا يجيب الدكتور التنويري محمد حبش على سؤالنا بالقول:
لقد أشرنا في السياق إلى ظاهرة الغلو في القرآن وهي الظاهرة التي أدت إلى منع أي نقد لنص الوحي، وحين بدأ الخليفة المأمون مشروعاً حيوياً لتطوير الإسلام تأسيساً على قاعدة خلق القرآن وارتباطه بحوادث معروفة في الزمان والمكان ظهر في مواجهة ذلك تيار متشدد رفض تحديد أي مناط للقرآن زمانياً أو مكانياً، واندفع الحنابلة للقول بقدم القرآن، والقول بسرمديته في الزمان والمكان، ومع أن هذه الفكرة خطيرة جداً على التوحيد لأنها تقول بتعدد القدماء، وقد رفضها العقلانيون بشدة في التاريخ الإسلامي ولكن الحنابلة في النهاية اعتبروها انتصاراً لكتاب الله، وأظهر الإمام أحمد بن حنبل صلابة شديدة في التمسك بهذا الرأي، وبعد سجن وتعذيب واضطهاد استمر أيام المأمون والمعتصم والواثق انتصر الخليفة المتوكل للحنابلة وفرض رؤيتهم في المذاهب الإسلامية.
ويعتقد الدكتور حبش:
إن مسألة خلق القرآن ليست مسألة هامشية أو عابرة، ومن التسطيح القول بأن الأمة الإسلامية سقطت ضحية خلاف لفظي لا أثر له، لقد كانت مسألة خلق القرآن فيصلاً صارماً بين تيارين، تيار يرى عبادة النص وتكريسه أزلياً سرمدياً، فهو نص أزلي غير مخلوق، ويقتضي ذلك أنه عابر للزمان والمكان، وهو منتهى الغلو، ومقتضاه أن النص بظاهره صالح لكل زمان ومكان، وإن علينا أن نقاتل بكل الوسائل لفرض دلالات الكتاب الظاهرة على كل المجتمعات في العالم.
وتيار يرى أن النص مخلوق، وقد نزل بحوادث معروفة وأجاب على مسائل محددة، وأنه نص أدبي وتربوي كريم، ثابت في قضايا الأخلاق والتوحيد، ولكنه في المعاملات وسائر شؤون الحياة محكوم بالوقائع، وهو نص محدود والأحداث بلا حدود، أو وفق عبارة الأصوليين النصوص متناهية والأحداث غير متناهية، وما يتناهى لا يضبط ما لا يتناهى.
ويأتي الدكتور حبش في تعزيزه لرأيه باستشهادٍ حيث يقول:
كانت رسالة المأمون هي تكريم القرآن كنص تاريخي مخلوق، وفتح المجال للعقل للاستنباط والاجتهاد فيما يتصل بالحياة في سائر شؤونها.
ونسأل الدكتور حبش:
هل توافقون علمياً على اعتماد منطق العقل في نقد النص القرآني؟ أم أن هذا النصّ غير قابل للنقد باعتباره نصّاً من عند الله؟
هل التنوير الإسلامي فكرٌ يعمل على نقد ما بعد النص القرآني؟
يجيب الدكتور حبش:
تحمل كلمة النقد ذاكرة سيئة لدى المتلقي في مجتمعاتنا، لأنها ترتبط بالنقد الهدّام، ولكن النقد البناء هو جزء من استكمال حيوية المشروع وفعاليته، وأول ما يتمناه الكتاب أو المفكر أن تقوم دراسات نقدية حول دراسته، فالنقد استكمال لروح الرسالة وإياء لمقاصدها.
على كل حال لسنا بحاجة إلى استخدام مصطلح نقد القرآن، ويمكننا الاكتفاء بما حرره الفقهاء المتقدمون في التعامل مع النص القرآني، حيث قرروا تقسيمه إلى محكم ومتشابه، ثم إلى ناسخ ومنسوخ، ثم إلى خاص وعام، ثم إلى مطلق ومقيد، وهي خطوات جريئة ومتقدمة تمنح العقل قدرة واضحة على إعمال النص وعلى التوقف فيه، إنهم لم يناقشوا ثبوته وقداسته ولكنهم ناقشوا دلالته ومناطه، وهذا كان كافياً لبناء دول متطورة في زمان في عصر متقدم، بل إن الحنفية كانوا أكثر جرأة فقسموا القرآن الكريم إلى قسمين:
الواضح وهو أربعة: المحكم والمفسر والنص والظاهر
وغير الواضح وهو أربعة: الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه
لو اننا استخدمنا اليوم وصف السادة الحنفية في آية قرآنية بأنها مشكلة او مبهمة أو خفية أو أنها من باب غير الواضح لاتهمنا في ديننا، مع أن هذه التصانيف كانت عادية وموضوعية في العصر الذهبي في الإسلام.
ويوضح الدكتور حبش فكرته أكثر فيقول:
لقد تعامل الفقه الإسلامي بوعي متقدم حين تعرض لنصوص الوحي بواقعية وموضوعية، ونجح في تصنيف كثير من نصوص الكتاب في باب المجاز الذي لا يراد ظاهره، أو المؤول على خلاف ظاهر النص، وكذلك القول بالنسخ سواء النسخ بطريق الكتاب أو بطريق السنة أو بطريق الإجماع، كل هذه الوسائل العلمية باتت اليوم في دائرة “التابو” أي المحرّم، ولا يمكنك التقدم بخطوة منها إلا بإسناد إلى السلف.
ونسأل الدكتور حول:
كيف يمكننا عقلنة التنوير الإسلامي دون نقد الرؤية القرآنية للكون والحياة والمجتمعات البشرية؟
يجيب الدكتور على سؤالنا:
المطلوب وضع الآيات في سياقها الزماني والمكاني:
إن دعوات التنوير التي تطالب برفض آيات في القرآن هي دعوات غير واقعية وتؤدي أثراً ضاراً في الوعي الإسلامي، بل المطلوب هو وضع هذه الآيات في سياقها الزماني والمكاني، والدعوة لإعمال العقل في الحاضر والمستقبل.
في عبارة مهمة لأدونيس في كتابه موسيقى الحوت الأزرق أشار إلى أن التنوير الأوروبي لم يذهب إلى إصلاح الدين وإنما ذهب إلى إصلاح الدنيا، وفي الواقع فإن فلاسفة التنوير لم يقوموا أبداً بتحديد نصوص مقبولة ونصوص محذوفة من الكتاب المقدس، وإنما ذهبوا إلى وضع إطار لإعمال هذه النصوص، بحيث لا تكون حكماً سرمدياً على الحياة وإنما هدي إرشادي مرتبط بعصر وزمان ومكان، قد يصلح في زمان ولا يصلح في آخر.
ويتابع توضيحه:
لقد قامت نصوص الكتاب المقدس وبشكل خاص نصوص العهد القديم بتبرير جرائم الحروب الصليبية، وكان الصليبيون القادمون بالأسنة والموت والنار يرتلون نصوص “أشعيا” كما يفعل نتنياهو اليوم، ويثيرون حفائظ الجند بترتيل الكتاب الذي يأمرهم بإبادة أعدائهم، وقد تمكن الكهنة بقيادة بطرس الناسك من إقناع الجمهور بأن إرادة الرب تفرض عليكم قتال المسلمين الكفار إلى النهاية، وقد استمرت هذه الكوارث مائتي سنة ودمرت استقرار العالم وأشعلت الحرب بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب إلى الأبد..
يختم الدكتور حبش إجابته على سؤالنا:
واليوم فإن نصوص الكتاب الذي أمر بالقتال الصليبي موجودة بنصها في العهد القديم لم يتغير حرف منها، ويرتلها الكهنة بخشوع وبكاء، ولكنها لم تعد تصنع إرهاباً ولا تطرفاً، ولم تعد تحشد جيوش الحروب الصليبية ضد الكفار، فما الذي تغير؟ إن التغير الحقيق طرا على العقل الأوروبي ولس على الدين الأوروبي، لقد نجح الفلاسفة في إقناع الجمهور المسيحي أن الكتاب المقدس مخلوق، وأنه محكوم بظروف نزل فيها وأنه لا يمكن اعتباره حكماً صالحاً لكل زمان ومكان، وانتهى الجميع إلى قناعة واضحة بفصل الكنيسة عن السياسة، والتشريع بالأدوات الموضوعية للفقه والاجتهاد دون انحشار في قفص النص.