الحيّ أبقى
تقاطر الناس من كلّ حدب وصوب في المدينة، إلى منزل الشيخ عبد الرحمن، بعد أن علم الجميع بوفاة الشيخ الجليل ليلة أمس، شخصيّات مدنيّة، دلّت بذاتها الأنيقة، وسيّاراتها الفارهة، على علوِّ مكانتها الاجتماعية، وأخرى عسكريّة، برتب عالية، دلّت عليها النجوم المتربعة على أكتافها، والأوسمة المعلقة على صدورها، مثلما وصلت عشرات السيّارات الفارهة من العاصمة والمدن الأخرى، استعداداً لتشييع الفقيد الراحل إلى مثواه الأخير، في قريته الكائنة في أعلى الجبل، والتي تبعد حوالي خمسين كيلومتراً عن المدينة.
في أثناء ذلك، كان أبو نزيه منهمكاً بالاستعدادات اللازمة للتشييع، والتي اعتاد عليها بحكم عمله منذ ثلاث سنوات ونيّف كسائق لسيارة دفن الموتى في جمعيّة المواساة الإسلاميّة، بعد أن أنهى خدمته في مديريّة المواصلات، وهكذا قام بتثبيت صورة كبيرة للفقيد على مقدّمة السيّارة، وسط إكليل كبير من الورود، كما قام بتثبيت أكاليل أخرى على جوانب السيارة البيضاء، ولم ينس تشغيل المسجّل الموجود في السيّارة، على شريط تلاوة للشيخ عبد الباسط عبد الصمد، حيث تأكّد من سلامة مكبرات الصوت، ومشغِّل صافرة الإنذار.
في الساعة الواحدة ظهراً، حيث الموعد المقرر للتشييع، وبعد أن اكتمل الحضور، تمّ إخراج المتوفى من منزله ووضعه في السيارة، وسط صيحات التكبير، وصراخ النسوة من ذوي الفقيد وأقاربه، بينما هرع الجمهور المحتشد كلٌ إلى سيارته، وانطلق الموكب المهيب مخترقاً شوارع المدينة باتجاه طريق الجبل، في المقدمة سيارة أبو نزيه يليها عدد من سيارات المرسيدس السوداء، ورتل ينوف على مئتي سيارة أخرى من مختلف الأنواع.
حين انطلق طابور السيارات خلف سيارة أبو نزيه، في الطريق الصاعدة الملتوية، لم يكن أبو نزيه يفكر في عدد السيارات التي وراءه، كما لم يكن يفكر في مصاب أهل الفقيد، ولا في مزايا الراحل وأعماله، فبالنسبة إليه، أصبح هذا المشهد مألوفاً، فكل فقيد عزيز على أهله وذويه، أياً تكن مكانته الاجتماعية، لقد تبلّد إحساسه تجاه الموت، تماماً، مثل تبلّد إحساس طبيب جرّاح لمرأى الدم، أو ممرضة عريقة تجاه صرخات الألم والأنين الصادرة عن مريض جديد.
كان تفكيره في مكان آخر، فقد تذكَّر أنه لم يطعم دجاجاته البلديات منذ ثلاثة أيام… وأخذ يحدث نفسه:
– ويلي عليك يا أبو نزيه…. ماذا سيحدث للدجاجات، بدون طعام ولا ماء.
كان من عادته أن يزور قريته كل يوم أو يومين على الأكثر، حيث يقوم بإطعام الدجاجات، وملء آنية الماء التي تشرب منها، وسقاية شجرات الليمون، التي غرسها في الحديقة الصغيرة أمام بيته، كما يقوم بجمع البيض البلدي الذي تكون قد جادت به الدجاجات، لكنه لم يستطع القيام بهذا الواجب ليومين متتاليين، ماذا يستطيع أن يفعل إذا كان عزرائيل نشطاً هذه الأيام، جنازة إلى قرية في الشمال، وأخرى في الجنوب، وثالثة في المدينة، هذا غير طلبات رئيس الجمعيّة، أبونزيه خذ
الأولاد إلى البحر، أبو نزيه اجلب الوالدة من الضيعة، أبو نزيه.. رح… أبو نزيه… تعال، وهكذا من الفجر إلى النجر كما يقولون… (إي شو أنا ماكنة، والله لو أنني ماكنة لكنت تعبت). كان يتمنى أن لا يعمل بعد إحالته على التقاعد، أن يعيش في الضيعة، ويهتم بالزراعة وتربية الدجاج، لكن مرتّبه التقاعدي لا يكفي نصف نفقات أسرته، وهكذا وجد نفسه يعمل في جمعية المواساة.
– ماذا لو توقفت قليلاً… دقيقتين فقط… أنظر إلى ما حلّ بالدجاجات…
– لا.. لا.. هل جننت يا أبا نزيه…. كيف ستتوّقف، وهذا الحشد من السيارات الذي يسير خلفك؟
– سأقول أنني توقفت لقضاء حاجة… أيوه… قضاء حاجة…
– لا.. لا… لا يجوز.. ماذا سيكون موقفك أمام الناس…. أمام أهل الفقيد.. هذا الشيخ عبد الرحمن، ما حيا الله
– يا (غشيم) الحيّ أبقى من الميت، ماذا سيكون موقفك إذا نفقت الدجاجات.؟. آه، ثم ماذا سيحصل للشيخ عبد الرحمن إذا تأخّر دفنه خمس دقائق.
– صؤ.. صؤ.. صؤ… لاحول ولا قوَة إلا بالله (واقفة.. يا أخي واقفة)… غير لائقة
– ولك قل لي بس إذا نفقت الدجاجات، هل يعيش الشيخ عبد الرحمن؟.. ثم تذكر أن الرسول (ص) قال: “دخلت امرأة النار في قطة حبستها، لاهي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”. إذا كانت قطة تُدخل النار، فما بالك في عشر دجاجات
– والله معك حق، الحيّ أبقى من الميت، لو أني لم أحبسهم… لو أني تركتهم يسعون في الأرض
– نسيت أنك حبستها كي تحميها من هجمات الثعلب، ألم يأكل ثلاث دجاجات العام الماضي عندما نسيت باب الخمّ مفتوحاً؟
– صحيح… هذا صحيح….
عندما انتبه أبو نزيه من شروده وصراعه مع نفسه، كانت مشارف قريته قد بدأت بالظهور، وبدل أن يسلك الطريق المحايد للقرية، وجد نفسه يدخل بين البيوت ومن ورائه طابور من مئتي سيارة، وفي اللحظة التي ضغط بقدمه على المكابح متوقفاً أمام بيته، كانت مئتا قدم تضغط على المكابح لتوقف طابور السيارات المذكور.
لم يكن معظم المشيّعين يعرفون قرية الشيخ عبد الرحمن، خصوصاً رتل السيارات الذي يلي سيارة المتوفى، حيث أن معظمهم أصدقاء أولاد الفقيد القادمين من العاصمة، وهكذا في البرهة التي دخل فيها أبو نزيه بيته، وفتح باب خمّ الدجاج، حيث انطلقت أصوات الدجاجات التي جفلت من صوت صافرة الإنذار (وق.. وق.. وق.. بق.. بق.. بقيق.. بق.. بق)
في هذه اللحظات، كان طابور السيارات قد توقف، وترجل المشيعون معتقدين أنهم قد وصلوا إلى مكان الدفن، بينما كان أهالي قرية أبو نزيه يتراكضون إلى المكان، مستطلعين عن المتوفّى من أهل قريتهم دون أن يعلموا بخبره، حيث كان صوت صافرة الإنذار يلعلع في فضاء القرية.. وي ي ي ي هوووووو…. وي ي ي ي ي هوووووو لتملأ القلوب رعباً، وهكذا اجتمع حشد كبير قرب عربة المتوفى، فيما تقدم شباب من أصحاب النخوة ليفتحوا باب السيارة ويرفعوا الجنازة بأيديهم، بينما راحت جوقة المنشدين تكبّر:
– الدايم الله ولا إله إلا الله
– كلُّ نفس ذائــقة الموت..
– وي ي ي ي هووووووو…. وي ي ي ي هوووووو
– سبحان الحيّ الدايم الباقي بعد فناء خلقه
– سبحان من قهر عباده بالموت
– الدايم الله ولا إله إلا الله
بينما صدح صوت الشيخ عبد الباسط بتلاوة زادت الموقف خشوعاً.
حدث كل ذلك في الدقائق القليلة التي دخل فيها أبو نزيه بيته ليستطلع حال دجاجاته، وحين اطمأن عليها عاد مسرعاً الى السيارة ليجد شباب النخوة يهمّون بإخراج جثة المتوفى من داخل السيارة فصرخ بهم بأعلى صوته:
– ولك لأ، توقفوا، لم نصل بعد..
في هذه الأثناء كان قد وصل بعض ذوي المتوفى محاولين دعوة الناس للعودة إلى سياراتهم، متأسفين لهذا الخطأ الذي حدث بسبب السائق، فيما ركب واحد من ذوي الفقيد مع أبونزيه قائلاً:
– ولك ماذا فعلت.. آه؟ هل جننت؟.. لماذا توقفت هنا؟
– سامحني والله لم أستطع أن أتحمل.. وقفت أقضي حاجة.. قلت كلها دقيقتين..
رد أبونزيه بينما كان يتصبب عرقاً
– الآن وقت حاجتك.. امش، يالله، امش
– والله لم أتوقع الذي حدث لا تؤاخذني.
– لم تتوقّع ما حدث، ماذا كنت تتوَقع؟ آه… على كل حسابك ليس الآن… هيا قد سيارتك بدون كلام
انطلق أبو نزيه بسيارته مسرعاً، تحت تأثير مشاعر الذنب الناجمة عن توقفه المفاجئ، ما جعله يسبق رتل السيارات بمسافة
– ولك على مهلك…. شو صارلك، انتظر حتى يلحق بك الموكب، كأنك أول مرة تقود في جنازة.. قال المرافق.
انتظر أبو نزيه حتى انتظم رتل السيارات خلفه ثم تحرك بهدوء إلى قرية الشيخ عبد الرحمن، حيث تمت مراسم التشييع والدفن
* * *
في اليوم التالي، جاء رجلان إلى دار أبو نزيه، وقرعا الباب، ففتح الباب ولد يافع، سأل الرجلان:
– هذا بيت أبو نزيه.
– نعم، من يريده؟.
– أين أبو نزيه؟
في هذه الأثناء جاء أبو نزيه إلى الباب مرتدياً منامته وقال:
– تفضلوا، من أنتم؟ وماذا تريدون؟.
– تفضل معنا خمس دقائق.
تغيَّر لون أبو نزيه عند سماعه بالـ خمس دقائق وهو يقول:
– ولكن إلى أين، طيّب.. طيّب، بس أرتدي ثيابي.
– يالله بسرعة نحن ننتظرك.. غاب أبو نزيه دقائق وعاد مرتدياّ بذته الرسمية ومشى مع الرجلين، صاح الولد
– بابا، إلى أين؟
– لا أعرف، راجع بابا راجع، مافي شي.
حُشِرَ أبو نزيه في المقعد الخلفي لسيارة، بين الرجلين بينما قاد ثالث السيارة باتجاه مجهول.
– دخيلكم قولوا لي ماذا فعلت حتى تأخذوني بهذه الطريقة؟
– ألا تعلم ماذا فعلت؟
– والله العظيم ما عملت شي.
– إذا كنت ما عملت شي، سؤال وجواب، وتعود إلى بيتك.
دخلت بهم السيارة بوابة كبيرة، ثم وقفت أمام مبنى، حيث ترجل الرجلان، واقتادا أبا نزيه إلى غرفة، وقف معه أحدهم بينما دخل الآخر إلى غرفة داخلية، حيث قدم التحية لشخص آخر قائلاً:
– أبو نزيه موجود سيدي.
– أدخلوه.. قال الشخص الآخر
تم إدخال أبي نزيه إلى الغرفة الداخلية، ليجد نفسه أمام رجل ضخم مفتول الشاربين، بادره بالقول:
– أنت أبو نزيه سائق سيارة الموتى في جمعيَة المواساة؟
– نعم سيدي هو بذاته.. لم يتسن لأبي نزيه أن يتم كلامه حتى كانت كف الرجل تصفعه بقوّة على وجهه، فيهتز لها متمالكاً نفسه دون أن يقع أرضاً.
– ولك حيوان… لم تجد إلا جنازة والد المعلم حتى تفعل فيها هذا الفعل الناقص؟
– أي معلم سيدي، والله العظيم لا أعرف شيئاً. جاءته صفعة أخرى
– وتتغابى أيضاً… ألا تعلم أن الشيخ عبد الرحمن والد المعلم؟
– سيدي أعرف أن الشيخ (الله يرحم روحه) لديه ولد محام، وآخر مهندس، وثالث ضابط في الجيش… أما معلم والله يا سيدي لم أسمع بمعلم.
– اخرس ولك.. والله لأرينك نجوم الظهر.
– مساعد أكرم.
في الوقت الذي أخذ أبو نزيه يستعطف الرجل طالباً السماح ومعترفاً بذنبه، رد المساعد أكرم:
– نعم سيدي.. ودخل الغرفة مسرعاً
– خذ هذا الحيوان من وجهي، واعمل له اللازم
– حاضر سيدي.
أخذ أبا نزيه إلى غرفة أخرى… ليعمل له اللازم
* * *
عاد أبو نزيه إلى بيته بوجه شاحب ولحية كثة بيضاء، وحين طرق باب منزله، فتحت زوجته الباب:
– الحمد لله على سلامتك، ادخل.. لم يجب أبو نزيه بشيء، كان يهلوس:
– دخلت امرأة النار في قطة… دخلت قطة النار في دجاجة…. دخلت دجاجة في جنازة..
– بسم الله الرحمن الرحيم، شهقت أم نزيه.. أبو نزيه… أبو نزيه
– دخلت قطة في امرأة… دخل أبو نزيه في جنازة… دخلت دجاجة في زجاجة.
* * *
قالت امرأة لجارتها:
– هل سمعت بما حدث لأبي نزيه؟
– أي والله، المسكين، يقولون إنه فقد عقله.
– أي والله يا أختي، يتكلم (شروي، غروي) ولا أحد يفهم عليه ماذا يقول.
– ومنذ متى حدث له ذلك؟
– قالوا من يوم جنازة الشيخ عبد الرحمن.
– يعني قولك…؟
– أي والله، يقولون إنه أخطأ مع الشيخ
– يا ربي دخيلك لا تجعلنا نخطئ مع المؤمنين
– آمين… يا رب العالمين.