fbpx

الحركة السياسية الكردية في سوريا التاريخ، التحديات، وآفاق المستقبل

0 75

لم يبدأ الوعي السياسي الكردي في سوريا مع نشوء أول حزب سياسي كردي في البلاد في الرابع عشر من حزيران عام 1957، بل سبقته أحداث ونشاط جمعي وثقافي واجتماعي قامت به شخصيات وجمعيات ومنتديات سياسية وثقافية متعددة.

فقد شكّلت خمسينيات القرن العشرين في سوريا مرحلة مفصلية في تاريخ التكوينات السياسية والاجتماعية، حيث تميزت تلك الفترة بحالة من الانفتاح السياسي النسبي، والتعدد الحزبي، والصراع الأيديولوجي بين القوى الوطنية، في ظل بيئة إقليمية ودولية شديدة التحول. وبينما انشغلت النخب العربية التقدمية بإعادة إنتاج مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، وصعود التيارات القومية واليسارية، بدأت مكونات اجتماعية مهمشة، مثل الأكراد، بالتعبير عن هويتها السياسية ضمن الأطر الوطنية المتاحة.

وفي هذا السياق، جاء تأسيس أول حزب سياسي كردي في سوريا عام 1957 ليس فقط كنتاج طبيعي لتراكم الوعي القومي الكردي، بل أيضاً كتعبير عن استثمار النخبة الكردية للهامش السياسي الذي أتاحته المرحلة، وعلاقتها المركبة مع التيارات التقدمية العربية التي سادت في تلك الآونة.

وبهدف تفكيك السياق السياسي والاجتماعي الذي ساعد في ظهور هذا الحزب، يجب تحليل العوامل المحلية والدولية التي شكّلت مقدمات تأسيسه، إضافة إلى بحث موقعه ضمن الخارطة السياسية السورية الناشئة آنذاك.

فقد كان للتمرد الذي قاده حاجو آغا، زعيم قبيلة “هفيركان” الكردية، في قرية “بياندور” القريبة من القامشلي. (الحدث الذي عرف تاريخيا “بانتفاضة بياندور” ضد الحكومة الفرنسية عام 1923)، وقعا كبيرا بين الأوساط الوطنية السورية. فقد ساهمت هذه الانتفاضة في تعزيز الهوية القومية الكردية رغم ما أثارته من خلافات وانقسامات قبلية بين أنصار حاجو أغا وأولئك الذين كانوا موالين للسلطات الفرنسية.

ومن الملفت أن تلك الانتفاضة كانت تجسيدا للتلاحم بين العشائر العربية كالجوالة وشمر وطي مع العشائر الكردية المنتفضة كعشيرة الشيتية وهفيركان، عشيرة حاجو آغا، حيث تعاونوا بشكل وثيق ضد الاحتلال الفرنسي.

ويعتبر ظهور جمعية خويبون (Xoybûn) التي تأسست في بيروت عام 1927 على يد نخبة من المثقفين والسياسيين الكرد في سوريا، تركيا، العراق وإيران، من أبرزهم، الأخوان جلادت وكاميران بدرخان اللذان ينحدران من عائلة سياسية وفكرية كردية عريقة، حدثا بالغ التأثير في مسيرة النضال القومي الكردي. ورغم أن الجمعية كانت ذات نشاط سري في سوريا بسبب القمع الفرنسي، لكنها عملت على تشكيل وعي قومي كردي جماعي، خاصة في منطقة الجزيرة ودمشق. وعملت على تأسيس جسور التواصل بين المثقفين الكرد وتوزيع المنشورات السرية والتشجيع على المشاركة في الانتفاضات الكردية في عموم أنحاء كردستان. ومن أعضائها البارزين إضافة إلى جلادت وكاميران بدرخان، يوسف زيا، مقداد مدحت بدرخان، عثمان صبري ورشيدي كرد (رشيد نور الدين) الذي كان من أوائل المثقفين الكرد في سوريا الذين ربطوا النضال الثقافي بالسياسي. وقد شارك في أنشطة خويبون وكان من المروجين لفكرة الحقوق السياسية للكرد في سوريا.

وفي عام 1932 أصدر جلادت بدرخان أول مجلة كردية بالحروف اللاتينية “هاوار” في دمشق. وقد لعبت هذه المجلة دوراً ثقافياً كبيراً في نشر اللغة والوعي القومي الكردي في سوريا. وشكلت منصة لتعريف الأكراد بتاريخهم وأدبهم وحقوقهم. واستمرت حتى عام 1943 تقريباً.

وقد كان للأكاديمي والمثقف الكردي البارز كاميران بدرخان الذي ساهم في جمعية خويبون دورا مهما في تطوير الأبجدية اللاتينية للغة الكردية. وكان لعمله كحلقة وصل بين النخبة الكردية في سوريا والشتات دورا مهما في التطور اللاحق لأشكال التعبير عن الوعي القومي الكردي في سوريا قبل عام 1957.

وفي (الأربعينيات والخمسينيات) من القرن الماضي ومع ازدياد عدد الطلاب الكرد في المعاهد والجامعات السورية في كل من دمشق وحلب تأسست العديد من المنتديات الثقافية الكردية التي لم تتخذ الصفة الرسمية، بل كانت عبارة عن تجمعات أدبية وفكرية لمثقفين كرد في المدن الكبرى. عملت على مناقشة قضايا الهوية والتعليم والحقوق والحفاظ على اللغة الكردية بعد منعها في التعليم والإعلام وقد لعبت هذه المنتديات دوراً هاماً في ترسيخ الهوية الثقافية لدى جيل الشباب، وساهمت في إعداد الجيل الذي أسّس أول حزب سياسي كردي عام 1957.

لقد تشكل هذا الوعي في بيئة مضطربة وغير مستقرة امتازت بكثرة الانقلابات العسكرية والتنافس الحاد بين القوى السياسية والتأثيرات الإقليمية والدولية خاصة في ظل الحرب الباردة، شهدت الساحة سورية خلالها تعددا حزبيا واسعا (حزب البعث العربي الاشتراكي ذو الطبيعة القومية الاشتراكية المتشددة والحزب الشيوعي السوري الموالي للاتحاد السوفييتي وحزب الشعب اليميني الذي يميل للتقارب مع العراق والحزب الوطني الليبرالي ذو التوجه التقليدي). وقد كانت هذه الأحزاب في صراع حاد فيما بينها بخصوص تحديد طبيعة الهوية القومية والسياسات الخارجية.

وكانت البلاد من جهة أخرى ساحة صراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فقد كانت أمريكا تدعم بعض الحكومات المتحالفة مع الغرب في حين كانت التيارات الوطنية تميل نحو المعسكر السوفييتي، وفي مصر كان نجم جمال عبد الناصر في صعود مستمر.

لقد ساهمت الظروف السياسية، من انفتاح سياسي نسبي، وارتباك مؤسسي، ووجود تيارات قومية وتقدمية خلال الخمسينيات، في خلق مساحة سمحت بولادة أول حزب سياسي كردي. كما أن النخب التقدمية العربية، المتأثرة بالخطابات المناهضة للاستعمار والداعية للتحرر القومي والاجتماعي، لم تعارض بل ساهمت في توفير مناخ ملائم لهذا التأسيس، طالما لم يكن الحزب الكردي انفصالياً أو معادياً للمشروع الوطني السوري.

ومن ناحية أخرى نالت الانقلابات المتكررة وتناوب القوى السياسية (اليمين، اليسار، القوميون) من سلطة الدولة المركزية وأوهنتها. الأمر الذي سمح للأقليات القومية (ومنها الأكراد) بالتحرك لطرح مطالبهم وتكوين تنظيماتهم الخاصة.

كانت النخب الكردية في سوريا خاصة المجموعة الرئيسية التي يتزعمها رشيد حمو ذو المنشأ الشيوعي والمشبع بالثقافة اليسارية، منفتحة على الأفكار الاشتراكية والقومية التقدمية، مما جعلها أقرب سياسياً إلى الأحزاب اليسارية والتقدمية.

الأمر الذي وفر غطاءً سياسياً، أو على الأقل، تسامحاً مع ظهور تنظيم كردي طالما لم يكن انفصالياً. باستثناء الحزب الشيوعي السوري الذي لم يكن موقفه إيجابيا تجاه ظهور تيار فكري قومي كردي في البلاد.

لكن تصاعد نفوذ التيارات القومية (مثل الناصرية والبعثية) واليسارية في المنطقة ساهم في تقوية خطاب التحرر الوطني ومناهضة الإمبريالية، وتعزيز شرعية مطالب الأقليات القومية في إطار وحدة وطنية أوسع.

وفي إطار مخرجات الحرب الباردة كان السوفييت يدعمون حركات الأقليات واليسار في الشرق الأوسط لكسب مزيد من الحلفاء، ما ساهم بدوره وبشكل غير مباشر في بروز قوى كردية ذات ميول اشتراكية أو يسارية ضمن بيئة عالمية تسمح بمثل هذه الاتجاهات.

لم تعارض النخب التقدمية العربية، علناً في البداية تأسيس الحزب الكردي طالما كان ضمن الإطار السوري العام. بل إن بعض رموز هذه التيارات كانوا يرون أن الاعتراف الثقافي بحقوق الأكراد لا يتناقض مع مشروعهم العربي، بل يعززه من خلال خطاب “الوحدة في إطار التعدد”.

لذلك، لم يكن هناك رفض مبدئي، بل أحياناً تشجيع ضمني أو تواطؤ صامت لظهور هذا الحزب كجزء من التعدد السياسي والوطني.

وهكذا تأسس أول حزب كردي سوري باسم “الحزب الديمقراطي الكردستاني (الكردي) في سوريا” سنة 1957. وقد جاء التأسيس في سياق سياسي عام سمح بقدر من الحراك السياسي والنشاط الحزبي، خاصة بعد سقوط نظام أديب الشيشكلي عام 1954 وعودة الحياة البرلمانية. فقد أعيد العمل بالدستور. وسُمح بتعدد الأحزاب. وظهرت بيئة أكثر مرونة للنشاط السياسي، خاصة في الأوساط القومية واليسارية. هذا الانفتاح سمح للنخب الكردية بتنظيم نفسها علناً لأول مرة سياسياً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني