
الجيش السوري الجديد والمصلحة الوطنية من ناحية التسليح
تواجه سورية اليوم تحديات كبيرة على صعيد بناء مؤسسة عسكرية قادرة على حفظ الأمن الداخلي والدفاع عن حدود البلاد، في ظل التغيرات الداخلية والإقليمية والدولية المتسارعة. انطلاقاً من هذا الواقع، أصبحت مسألة تنويع مصادر التسليح والتدريب للجيش السوري الجديد (بعد سقوط نظام بشار الأسد) محل جدل سياسي واستراتيجي، خصوصاً في ضوء الدور الأمريكي المتنامي في تدفق الأسلحة والتدريب. يسعى هذا المقال إلى دراسة أربعة محاور رئيسية تنسجم مع المصلحة الوطنية السورية:
أولاً: مدى أفضلية تعدد مصادر التسليح مقارنةً باعتماد وحيد على الولايات المتحدة.
ثانياً: كيفية تأثير ارتهان التسليح للولايات المتحدة على استقلالية القرار السيادي والحفاظ على مصالح الشعب السوري.
ثالثاً: أهمية فتح قنوات تسليح متعددة دولياً لتحقيق هامش استقلالية أوسع.
ورابعاً: استكشاف مدى وجود ضغوط على الحكومة الانتقالية والرئيس الانتقالي أحمد الشرع لقبول المظلة الأمريكية.
1. هل تنوع مصادر التسليح أفضل من ارتهان التسليح للولايات المتحدة؟
تُعَدّ قضية تنويع مصادر التسليح قضية إستراتيجية بالغة الأهمية لأي دولة تسعى لترسيخ استقلالها وتوسيع خياراتها السياسية والعسكرية. فعندما تعتمد الحكومة السورية الانتقالية بالكامل على الولايات المتحدة كموردٍ وحيد للسلاح والتدريب، تصبح هذه الأخيرة ” بحكم منصبها كمزود وحيد ” قادرة على فرض شروط سياسية وعسكرية قد لا تتوافق بالضرورة مع أولويات سورية أو مصلحة الشعب السوري.
مثال تاريخي: تجربة بعض الدول التي اعتمدت على مورد واحد للسلاح (سواء كان الاتحاد السوفيتي سابقاً أو الولايات المتحدة لاحقاً) أظهرت أنهم غالباً ما يجدون أنفسهم أمام ضغوط للإذعان لسياسات المورد، خصوصاً عندما يحاول المورد توظيف التسليح كسلاح ضغط سياسي.
منطق التنويع: بتنوّع مصادر التسليح (روسيا، تركيا، بعض الدول العربية أو حتى دول شرق آسيا)، يُمكن لسورية أن تحافظ على قدرة تفاوضية أفضل، بل وقد تعتمد على أي مورد يُقدّم شروطاً أكثر تناسباً مع رؤية الحكومة الانتقالية، سواء من ناحية الأسعار أو شروط التدريب أو نوعية الأسلحة.
بناءً عليه، يُعَدّ تنويع مصادر التسليح أفضل من الالتزام بمورد واحد (كالولايات المتحدة)، لأنه يعزز القدرة على المناورة، ويقلل من احتمالية استغلال المورّد لتوجيه السياسات السورية نحو ما يخدم أجنداته الخاصة.
2. ارتهان التسليح يعني ضعف استقلالية القرار السيادي وتدني الحفاظ على مصالح الشعب السوري
حينما تمتد سيطرة الولايات المتحدة على خيارات التسليح والتدريب، تصبح القرارات المصيرية المتعلقة بالعملية العسكرية والسياسية السورية خاضعة إلى ما هو أبعد من الحدود الوطنية السورية. يمكن تفسير ذلك كالتالي:
انتقال شرعية القرار: بقبول السلاح الأمريكي والتدريب تحت إشراف مباشر أو غير مباشر، تنتقل شرعية اتخاذ القرار العسكري إلى المرجعية الأمريكية، فتُصبح أي عملية عسكرية أو تحرك على الساحة يتطلب استشارة أو تنسيق، بل أحياناً الحصول على موافقة صريحة.
تبادل المصالح: إن السلاح ليس مجرد أدوات قتالية، بل يُعبّر عن تحالف سياسي واستراتيجي. فإذا اعتمدت سورية على السلاح الأمريكي، فإن الإدارة الأمريكية قد تطلب بالمقابل موقفاً سياسياً لصالحها في المحافل الدولية أو تسهيلات في قضايا إقليمية، الأمر الذي ينعكس سلباً على مصالح الشعب السوري التي قد لا تلتقي مع المصالح الأمريكية دائماً.
تأثير سلبي على شرعية الحكومة الانتقالية: عندما يدرك الشارع السوري أن مؤسسات بلاده العسكرية تتخذ توجّهاً خارجياً استغلالياً، قد ينشأ شعور بأن الجيش لا يمثل الإرادة الوطنية، بل أنّه خادم لمصالح أجنبية، مما يضعف الثقة الشعبية ويضعف تمكين السلطات السورية.
إجمالاً، ارتهان التسليح للولايات المتحدة يؤدّي إلى تقويض الاستقلالية السيادية وتراجع قدرة سورية على الحفاظ على مصالح شعبها، لأنّ القرار السيادي ” سواء على مستوى استخدام القوة أو الاختيار بين اتجاهات تحالفية مختلفة ” يتضاءل حين يكون المورد الرئيسي للسلاح هو من يملّك مفتاح إنتاج القرار.
3. أهمية تعدد مصادر التسلح دولياً لهامش استقلالية أوسع
تكمن أهميّة تنويع مصادر السلاح في إثراء الخيارات الإستراتيجية وتفادي الوقوع تحت سيطرة سياسية مختلّة التوازن. وفيما يلي بعض الأسباب التي تجعل تعدد مصادر السلاح مطلباً وطنياً:
1. تقليل خطر الابتزاز السياسي
عندما يكون الاعتماد على مورّد واحد، يصبح المورّد في موقع قوّة يُمكّنه من فرض شروط سياسية في كل مرحلة من مراحل تسليم السلاح أو استمرارية الدعم.
لكن إذا استطاعت الحكومة الانتقالية جلب التسليح من دول متعددة (مثل روسيا، تركيا، أو حتى بعض الدول الأوروبية التي لا تشترط قيوداً قاسية)، فإن ذلك يُخفّض من قدرة أي طرف على ابتزازها.
2. تنويع قدرات الأسلحة وتعويض العجز التكنولوجي
لكل دولة مجالات تُتقنها عسكرياً، ففرنسا متفوقة في الطائرات المقاتلة والمدرعات، في حين تَبْرُع تركيا في تصنيع الطيارات بدون طيار منخفضة التكلفة وأسلحة فردية. عبر التنويع، يُمكن للحكومة الانتقالية أن تحصل على مزيج من القدرات التي تُلبي الاحتياجات المختلفة مثل: مضادات للدروع، مضادات للطائرات، صواريخ، تدريب خاص، وغيرها.
هذا التنوع يؤدي إلى قدرة أكبر على معالجة الجبهات المختلفة.
3. زيادة هامش المناورة الدبلوماسية
بوجود أكثر من مصدر، يمكن لسورية أن تلعب أدواراً دبلوماسية مختلفة بين أطراف العواصم المتنافسة: تركية، روسية، فرنسية، بريطانية، خليجية، وغيرها. هذا يمكّنها من تحقيق مصالح متوازنة، دون الانجرار وراء سياسة طرف واحد.
كما أن تعدد المصادر يتيح تنفيذ اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف بشروط مرنة، ويقلّل من حدة الاختراقات الأمنية والسياسية التي تصاحب احتكار السلاح.
4. بناء بنية صناعية عسكرية وطنية
عبر الانفتاح على أكثر من شريك تقني، يمكن للحكومة الانتقالية استقدام تقنيات ومهارات متنوعة لتطوير الصناعة العسكرية المحلية. فعندما تسمح تركيا أو فرنسا بنقل التكنولوجيا لتصنيع قطع أو قطع غيار محلياً، فإن ذلك يساعد على إقامة سلسلة إمداد مستقرة حتى في ظل عوائق الحصار وقطع العلاقات.
هذا العامل يسهم في رفع نسبة الاكتفاء الذاتيّ المستقبلي، وهو هدف أساسي لكل دولة ترنو إلى المحافظة على استقلالها.
من هنا، نخلص إلى أن تعدد مصادر التسلح دولياً يمنح سورية ” هامش استقلالية ” أوسع بكثير من الاعتماد على مورد واحد، إذ يعزّز المرونة الاستراتيجية ويحقّق تنوعاً في القدرات، كما يساهم في بناء منظومة دفاعية أكثر صلابة واستدامة.
هل هناك ضغوط على الحكومة الانتقالية والرئيس الانتقالي أحمد الشرع لقبول المظلة الأمريكية؟
منذ إعلان تشكيل الحكومة السورية الانتقالية وتسلّم الرئيس أحمد الشرع لرئاسة ” المرحلة الانتقالية “، برزت عدة مؤشرات على وجود ضغوط خارجية للقبول بالمظلة الأمريكية، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي:
1. التنسيق المباشر مع تركيا والمنظمات الداعمة
تبقى تركيا أحد الأذرع السياسية التي تلتقي في بعض الأحيان مع الأجندة الأمريكية بشكل أو بآخر. وعلى الرغم من وجود اختلافات بين مكوّنات “الحكومة الانتقالية” حول درجة الانفتاح على واشنطن، إلا أن وجود علاقة وثيقة بين تركيا والدوائر الأمريكية يُسهّل على الأخيرة ممارسة ضغوط ملحوظة، سواء عبر ضمان البقاء السياسي أو من خلال وعود الدعم اللوجستي والعسكري.
(صرح بذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكل وضوح).
2. شروط التمويل والدعم اللوجستي
أي دعم مالي أو لوجستي يُقَدّم من مؤسسات أمريكية (حكومية أو غير حكومية) غالباً ما يتضمن ” إطاراً سياسياً ” يوجب على الطرف المستفيد تنسيق أعماله مع المصالح الأمريكية في المنطقة.
على سبيل المثال، قد يشترط أي دعم أمريكي لدعم الاستقرار السياسي تقديم ” مستندات شفافية حول العقود والمعابر الحدودية “، أو ” تأكيد الانتماء للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية ” (طلبته فرنسا من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع خلال زيارته باريس وهذا الطلب وراءه الولايات المتحدة الأمريكية)، وهو ما يسلط الضوء على وجود قيد مسبق حول حرية القرار الوطني.
3. المجتمع المحلي والضغوط
في مناطق الشمال الشرقي السوري المحاذية للحدود التركية العراقية، برزت ضغوط شعبية ومحلية تطالب الحكومة الانتقالية بقبول المظلة الأمنية الأمريكية، بادعاء أنها توفر حماية من أي انزلاق للأوضاع نحو سطوة ” تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “.
من جهة أخرى، يراها بعضهم كغطاء غير مرغوب به، خصوصاً مع التذمر الواسع من عمليات التنسيق التي قد تحجم القرارات السياسية المحلية.
4. التوازن الإقليمي بين تركيا/المملكة العربية السعودية وروسيا
تركيا والمملكة العربية السعودية، حاضنتا الحكومة الانتقالية، تميلان في الكثير من الأحيان إلى توجيه الضوء نحو التنسيق مع واشنطن لضمان “غطاء سياسي” في ضوء التوتر مع موسكو أحياناً.
أما روسيا، فتخشى من توسع النفوذ الأمريكي في سورية، وفضّلت تقديم بدائل عسكرية يمكنها من خلالها الضغط على الحكومة الانتقالية لعدم الانجرار كلياً خلف واشنطن، مثل تسليح الجيش السوري الجديد وبناء قواعد عسكرية جديدة.
وبشكل عام، يمكن القول إن الضغوط الأمريكية تظهر بوضوح من خلال ربط الدعم العسكري والمالي وإزالة العقوبات الاقتصادية بشروط سياسية تفرض تقارباً وإسناداً لمصالح واشنطن الإقليمية، وهو ما يضع الحكومة الانتقالية والرئيس أحمد الشرع أمام معادلة صعبة، تتطلب حماية الاستقلالية الوطنية في الوقت نفسه الذي تتطلع فيه إلى تقوية قدراتها العسكرية لتحقيق الأمن الداخلي ومكافحة التنظيمات الإرهابية.
هنا؛ في ضوء ما سبق من تحليل، يتضح أنّ تنويع مصادر التسليح للجيش السوري الجديد هو الخيار الأمثل لضمان استقلالية القرار السيادي وحفظ مصالح سورية الوطن والشعب، بعيداً عن الابتزاز والابتعاد عن الأجندات الخارجية. فالمحافظة على هامش واسع من المناورة الاستراتيجية تتطلب فتح قنوات تسليح متعددة (روسية، أوربية، تركية أو حتى من دول غير إقليمية شريطة ألا تكون أحادية المصدر)، إلى جانب بناء قاعدة صناعية عسكرية وطنية تُقلّص الاعتماد على الخارج. أما الاعتماد الحصري على الولايات المتحدة فلا أحبذه لأنه سيكون حتماً مقرون بشروط سياسية تلزم الحكومة الانتقالية بشروط قد لا تتوافق مع المصلحة الوطنية، مما يُضعف شرعيتها أمام الشعب ويقوض استقلالية القرار السيادي.
وفيما يتعلق بالضغوط، فإن الحكومة الانتقالية والرئيس أحمد الشرع يواجهان حراكاً سياسياً من أطراف دولية وإقليمية، يطالب بعضها بقبول المظلة الأمريكية. لذلك، ينبغي على القيادة السورية الانتقالية أن تتعامل مع هذا الحراك بحذر، بأن توازن بين الاستفادة الفعلية من الدعم الأمريكي والتأكيد على حق سورية الكامل في تقرير مسارها السياسي والعسكري، ضماناً لسلامة الوطن وحماية لمصالح شعبه.