fbpx

التغريبة الشعبية بين حاتم علي ومحمد علي شاكر

0 484

رُبما يُعد مشهد تشييع الراحل “حاتم علي” في دمشق، مؤشراً بالغاً على مدى إمكانية عودة المياه إلى شبكة العلاقات الاجتماعية بين الشرائح التي فرقتها أعوام الحرب والدماء التي سالت، وإعادة ترميمها مستقبلاً. عودة وأن كانت على طريقٍ وعرة معبدة بالمسامير؛ إلا أن نتاجه وما قدمه للشاشة العربية والجمهور على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، خلق انسجاماً والتفافاً شعبياً غاب منذ عشرة أعوام. فتحاملوا على جراحهم وتناسوا انقساماتهم السياسية العميقة باختلاف إثنياتهم وقناعاتهم وقرروا أن ينسوا ويترفعوا لبعض الوقت عن خلافاتهم أمام حضرة عملاق الإخراج التلفزيوني، وتقديراً لرحيله ولتكون نظرة الوداع الأخيرة بما يليق به من احترام. بل إن العرب من غير السوريين أيضاً لم يختلفوا عن أقرانهم السوريين في الإجماع على فداحة خسارة الوسط الفني لهذه القامة المميزة بعملها، بعد أن ترك أثر إبداعاته على طول البلاد العربية وعرضها. خاصة مع ذكائه الحاد في استقطاب أبرز الكتّاب ونجوم التمثيل والدراما وحتى الفنيين. وعلى الرغم من الاستقطابات الحادة في المواقف، لكن الموالين والمعارضين كلهم اجتمعوا تحت نعشه، مرددين معاً أناشيد الشام واستقبالها لفقيدها. كل ذلك حين كان المسيحيون ينتظرون أمام جامع الحسن، ليتلقفوا الجثمان على أكتفاهم. وللكرد موقف أيضاً، حيث عجت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي للنشطاء والكتّاب والصحفيين وبعض السياسيين وحتى العامة من الكرد، بصور ونعوات وعبارات الوداع الأخير للمخرج “حاتم علي” خاصة وأن مسلسل صلاح الدين الأيوبي الذي أخرجه، تزامن مع مسلسل “البحث عن صلاح الدين” للمخرج “نجدت أنزور”. وعلى الرغم من أن كلا المسلسلين لم يُشيرا إلى قومية ونسب صلاح الدين، ككردي رفع راية الإسلام، لكن شخصية عم صلاح الدين التي جسدها الفنان “محمد مفتاح” باسم ” أسد الدين شيركو” لدى “حاتم علي” بما يحمله الاسم من دلالة كردية واضحة، ولعلها المرة الأولى، وإن بشكل خجول جداً، التي يُنطق باسم كردي خلال مسلسل تاريخي عرض مئات المرات، وضمن سياق زمني امتاز بالقمع الشديد على كل ما يمت للكرد بصلة. في حين أن “نجدت أنزور” وكون مسلسله اعتمد في جانب الاستشارات التاريخية على الدكتور “سهيل زكار” غير اسم الشخصية إلى تقي الدين، وأدى دورها “عبد الهادي صباغ” تعميقاً لمشهد الإنكار والمحق والسحق الذي لحق بالكرد سياسياً وفنياً. 

في الوقت عينه،”لا كرامة لنبي في قومه” هو واقع الحال الكردي مع مبدعيه ونخبه المميزة. مشهد التشييع المهيب للراحل “حاتم علي” إعادة تحريك مشهد الوداع الأخير لأبرز الفنانين والمبدعين الكرد في سوريا. حيث امتاز “محمد علي شاكر” الذي وافته المنية قبل أيام، بحسن السيرة الفنية والشخصية، وهو القادم من ريف مدينة الدرباسية، من خلفية دينية بدأ حياته بترتيل آيات القرآن الكريم، وترتيد الأناشيد الدينية، حيث منع جده، والده من الغناء والعزف، فتحول الأب إلى داعم لمشاريع أبنائه وخاصة الراحل، وساعده والده في أن يكون أول من أدخل آلة العود إلى رأس العين في بدايات ستينيات القرن الماضي، عبر شرائها من الفنان والشاعر الكردي “بي بهار”، مقتحماً عوالم الفن والغناء والتلحين منذ 1969.  ورحل عن عمر ناهز الـــ/75/ عاماً، قضى نصف قرن في خدمة الفن والفلكلور والموسيقى الكردية، مقدماً قرابة 270 قصيدة شعرية، نظمها ولحنها على مدار نصف قرن، فحاز على لقب “ينبوع” في رمزية إلى ينابيع سريكانيه/رأس العين.

وضمن سياسة توضيح المواقف المبنية على إجرائية الفعل المطلوب، فإن تغريبة الفن الكردي استمرت وفق منحيين متطابقين في المضمون، ومختلفين في التوجه وإن كان من الضروري أن يصبّا في الجهة ذاتها، كون المنبع واحد، أي وحدة الانتماء الوطني على اختلاف أنواعه من جهة، ومن جهة ثانية أساس التقدير الذي يبدأ من أهل البيت أولاً. فمنظر التشييع الضعيف والباهت لجنازة الموسيقار الكردي يدفع للحديث على منحيين مترابطين، الأول: السوريين على اختلاف مشاربهم مستمرون بعدم الوقوف إلى جانب الكرد في مصائبهم وأفراحهم. فقبل الـــ2011 ما كان للفن الكردي أن ينتعش أو يرى النور علانية، باستثناء الفرق الموسيقية والفلكلورية في يوم النوروز في21 آذار من كل عام، وهي بطبيعة الحال غير كافية لا لنشر تراث شعب ولا لتعريف الآخرين به. الثاني: المشكلة الأعمق أن لا أحد، إلا ما ندر، من السوريين التفتوا إلى قضايا مجتمعية غير مرتبطة بالخلافات السياسية والمشاريع المستقبلية، وكان يمكن لها أن تكون أرضية متينة للتقارب بين مكونات الوطن السوري. في حين كان من المفترض أن تكون بداية الحدث السوري في آذار2011، نهاية حقبة الإنكار والتهميش، خاصة وأن “محمد علي شاكر” وغيره كثر رحلوا وبقيت دوائر الفن والنقابات الفنية السورية حكراً على العرب وحدهم. وهو، أي الراحل، كحال غيره، الذي مثلت قوميتهم الكردية عائقاً أمام انتسابهم لنقابة الفنانين السوريين، ولم يحظى أرشيفهم الموسيقى الغني بأي اعتراف وطني، وغابت كل الجهات الرسمية السورية عن حفظ حقق التأليف والطبع، ما أضر بهم كثيراً خاصة لجهة سرقة الألحان التي قاموا بتأليفها دون موافقتهم وهو فعل السرقة، اشترك بها الجميع ممن تطفل على الفن والثقافة والموسيقى، فلا تزال الأغنية الشهيرة للراحل: “Ez dil ketim wan çanan” أي “عشقت هاتين العينين” يغنيها أكثر من 50 مغن، وباستثناء فنانة واحدة، لم يذكر أي منهم اسمه.

كما أن المفارقة التي رافقت جنازة الموسيقار الكردي الراحل برزت بثلاثة أحداث متشابكة، أولها: نزوحه أثناء عملية نبع السلام على سري كانيه/رأس العين، وإصابته بفايروس كورونا أثناء إقامته في عامودا، وهو الذي تعرض لضغط نفسي حاد نتيجة تحويل فصائل المعارضة السورية المسيطرة على سري كانيه، منزله والـ “قبو” إلى ثكنة عسكرية وسجن. منزلٌ كان ملتقى رواد الفن والموسيقا لمكونات المدينة من عرب، شركس، مسيحيين، كرد، يتعرض إلى شقلبة تطيح بتراث ومجهود أكثر من نصف قرن، دون أن يُسمع صوتٌ معارض لتلك الممارسات، وهو الذي وافته المنية خارج دياره ضمن من تضرروا من العمليات العسكرية، ولم يُسمح لهم بالعودة إلى ديارهم، ولا حتى إمكانية الدفن فيها. وثانيها: أن لا أحد من السوريين اهتم أو رُبما لم تكن الهيئات الفنية على علم بمدى عمق وأهمية هكذا شخصية استقطبت مختلف شرائح المجتمع السوري في محافظة الحسكة. أما ثالثها: وهي الأكثر وجعاً وسحقاً لذوات وحيوات المبدعين الكرد على اختلاف أصنافهم، أن الحركة السياسية الكردية على اختلاف تياراتها وتشعباتها، لم تهتم ولم تشارك في التشييع، الذي اقتصر على أقل من بضع عشرات من عامة الناس. حتى الجنازة نفسها لم تلقى الاهتمام من جهة التحضيرات والترتيبات، ولا حتى الإعلان عن موعد الدفن.

وهكذا استمر الكرد في إضاعة فرصة الاتفاق على حدث ليكون ذاكرة جمعية لهم، واستمر السوريون بإهمال آداب وأفكار وتراث غيرهم من غير العرب. لا أذكر أن ثمة جامع للكرد والعرب على صعيد التشارك الفني والأدبي خارج سياق النص الفني الغنائي بين سميح شقير وشفان برور أثناء بداية التظاهرات في سوريا، ويبدو أنه لا نية لأحد البحث عن تشاركات وتقاطعات تمكنهم من تجسير الهوة بين المكونات عبر الأدب غير السياسي والفن، لتتحول إلى ذاكرة جمعية سورية وطنية، وشيء من الهويّة الجامعة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني