fbpx

التحالف السنّي الكبير: مقاربة فلسفية في مشروع الهيمنة الأمريكية ومعضلة الذات السنّية

0 109

من السهل أن تعيد رسم الخريطة، لكن من الصعب إعادة تشكيل ذاكرة الجماعة

بهذه المفارقة تبدأ أزمة أي مشروع خارجي يحاول بناء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، وأشدها تعقيداً تلك التي تستند إلى توظيف الانتماء الطائفي كسلاح استراتيجي.

تتزامن عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مع مؤشرات واضحة على رغبة إدارته في استئناف ما بدأه خلال ولايته الأولى: هندسة شرق أوسط جديد عبر تحالفات متقاطعة، يكون فيها المحور السنّي المعتدل عموداً فقرياً لمعادلة الأمن والسيطرة.

زيارة ترامب إلى الخليج، ورفع العقوبات عن سوريا في أول أيام عهده، لا يمكن قراءتهما بمعزل عن هذا السياق، خاصة في ظل بقاء مسارات التطبيع قائمة، واستمرار الانقسام الإقليمي بين مشاريع سلطة وهوية متعارضة.

في هذا السياق، يعود إلى السطح مصطلح التحالف السنّي الكبير، لا كهوية دينية حيّة، بل كمشروع هندسيّ للنفوذ، يرمي إلى احتواء النفوذ الإيراني عسكرياً، والإسلام السياسي سردياً، والصين جيو-اقتصادياً، عبر شبكة تحالفات سنّية معتدلة يجري هندستها من خارج المنطقة..

لكن ماذا يعني أن تُختزل طائفة دينية، بحمولتها التاريخية والثقافية، في وظيفة جيوسياسية؟

وهل يمكن لهوية كبرى كالهوية السنّية، أن تكون فاعلة دون أن تكون مستعملة؟

هنا تتبدى المعضلة السنّية، لا بوصفها أزمة تموضع سياسي فحسب، بل كأزمة وجودية مركّبة، تُعيد طرح سؤال الذات والفاعلية والموقع في عالم لم يعد يعترف إلا بالأدوار المصممة مسبقاً.

لقد خرج السنّة – في أغلب البلاد العربية – من لحظة انهيار المركز التاريخي دون الدخول في لحظة إعادة البناء.

فهم اليوم لا يمتلكون مشروعاً فكرياً جامعاً يؤطر رؤيتها للعالم، ولا دولة مركزية تحتضنها كما كان الحال في زمن السلطنة العثمانية، ولا سردية سياسية متماسكة تتجاوز ردّ الفعل على الآخر (إيران، الشيعة، الغرب…).

ومن هنا، تصطدم كل محاولة خارجية لبناء “تحالف سنّي” بفراغ داخلي يفتقر إلى البوصلة الحضارية.

وكما كتب مالك بن نبي بمرارة الناقد الذي عاش الهزيمة الحضارية: الأمة التي تفقد فاعليتها الحضارية تتحول إلى موضوع في التاريخ، لا ذاتاً فيه

بهذا المعنى، لم يعد السنة شريكا في تشكيل العالم، بل ملفا أمنيا يدار من الخارج، أو كتلةً وظيفية يعاد تدويرها حسب متطلبات التحالفات والصراعات. لقد فقدوا الذات المنتجة لصالح الذات الأداة وغادروا أفق الحضارة إلى هامش الجغرافيا.

من قمّة الرياض إلى “صفقة القرن”… حين تعيد أمريكا هندسة الطوائف

حين وقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قمة الرياض يوم م21ايو 2017 إلى جانب أكثر من خمسين زعيماً عربياً ومسلماً، أعلن ما بدا كتحالف سنّي – أمريكي جديد تحت شعار محاربة “الإرهاب والتطرف والطائفية”.

لكن خلف هذا الشعار، كان الهدف الضمني واضحاً:

  • محاصرة إيران كقوة إقليمية تهدد التوازن التقليدي.
  • ضرب مشروع الإخوان المسلمين باعتباره تهديداً سياسياً داخل النظم الحليفة.
  • تهيئة الأرض لتحالف أمني – اقتصادي مع إسرائيل، ظهر لاحقاً في اتفاقيات التطبيع.
  • وتطويق تمدد الصين الجيو – اقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خصوصاً في المناطق التي تمر بها مشاريع “الحزام والطريق”.

بهذا المعنى، لم يكن التحالف السنّي المقترح مشروعاً دفاعياً فحسب، بل محاولة أمريكية لإعادة هندسة المجال الحيوي في وجه ثلاث سرديات متصارعة: الثورة (الإسلام السياسي)، والطموح الإقليمي (إيران)، والتوسع الناعم (الصين).

وفي عام 2019، أعاد وزير الخارجية مايك بومبيو تكرار الرسالة ذاتها في خطابه من الجامعة الأمريكية في القاهرة، مشيداً بـ “الصحوة السنّية المعتدلة”، وداعماً مشروع التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط (MESA)، الذي كان من المفترض أن يضم السعودية، الإمارات، مصر، الأردن، وربما دولاً أخرى.

لكن، وكما يوضح إيمانويل والرشتاين، فإن تحالفات كهذه، ما لم تُدعَم بمنظومات بديلة في الاقتصاد والإنتاج والمعرفة، تبقى تحالفات ظرفية محكومة بمنطق الهيمنة لا التحرر.

وربما كانت مشاريع كـرؤية السعودية 2030المدعومة أميركيا محاولة أولى لتجاوز هذا القصور، عبر السعي لبناء نموذج تنموي جديد يستبدل الهويات الصراعية بهوية إنتاجية منفتحة.

اليوم، ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض وزيارته الأخيرة إلى الخليج، لا يبدو أن مشروع “التحالف السنّي الكبير” قد طُوي أو أُسدل عليه الستار. بل على العكس، تلوح في الأفق مؤشرات على بعثه من رماده، بأساليب أشد دهاءً، وأهداف أكثر اتساعاً، في مشهد إقليمي يزداد هشاشةً واضطراباً. فالتحالفات الأمنية ما تزال قائمة، ومسارات التطبيع مستمرة، والهوية السنّية ما زالت في تبحث عن ذاتها، فالمشروع لم يعد مجرد استراتيجية أمريكية لتطويق الآخر، بل أصبح سؤالاً داخلياً يُلاحق الذات السنّية نفسها:

هل يمكن للسنّة أن يتحوّلوا من مجرد بيئة للتحالفات، أو موضوع للاتهام، إلى فاعل سياسي مدني حضاري؟

هل يمكنهم استعادة المبادرة، لا كأدوات ظرفية في هندسة الآخرين، بل كفاعلين يملكون مشروعاً ورؤية ومكانة سياسية حضارية؟

يبقى الجواب على هذا السؤال رهناً بالذات السنّية وليس بواشنطن مستنداً إلى حقيقة ألا تحالف حقيقي بلا ذاتٍ حرة

أخيراً:

إن ما يُروَّج له تحت اسم التحالف السنّي الكبير لا يبدو إلا محاولة جديدة لفكّ عقدة الشرق الأوسط بمفاتيح لا تنتمي إلى بابه. فالعقل السياسي الأميركي، المولع بالصفقات، قد يغفل أن هذه المنطقة لا تفهم بالمصلحة وحدها، كما نبه إدوارد سعيد، بل تُقرأ من خلال سردياتها، وكرامتها، وذاكرتها، ولغتها الخاصة.

وفي جغرافيا كهذه فان رسم حدود جديدة على الخرائط أسهل من محو الحدود القديمة من الذاكرة الجمعية.

إن الخطر الأكبر في مشروع “التحالف السنّي”، لا يكمن في كونه تحالفاً هشاً بلا مقومات داخلية فقط، بل في كونه يعمل على تحويل الطائفة الكبرى (الأمة) في العالم الإسلامي إلى وظيفة جيوسياسية تُستدعى عند الحاجة، ويستغنى عنها عند تبدّل المصالح.

ما تحتاجه الهوية السنّية اليوم هو التحرر من عبء التوظيف الخارجي، ومن وهم القيادة المرتكزة على العدد دون مشروع حضاري جامع، وبدون ذلك فإن كل تحالف سيبقى هشا، مؤقتا، وعرضةً للانهيار.

فالشرق الأوسط لا يُعاد تشكيله من أعلى، ولا تُبنى طوائفه على طاولات الصفقات. والذاكرة الجماعية ليست بنداً تفاوضياً.

ما لم تُستعاد السرديات من الداخل، فإن كل خريطة جديدة ستكون مجرد إعادة تدوير لخريطة الخيبة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني