fbpx

التحالفات الديمقراطية السورية

0 289

لم يشهد تاريخ الأحزاب في سورية منذ مرحلة الاستقلال وحتى أواخر السبعينيات، أي حالة تحالف أو تجمع بين عدة قوى أو تيارات سياسية، بل كانت الحالة الحزبية الفردية هي السائدة، وذلك بحكم المرجعيات الإيديولوجية لتلك القوى، وتوجهاتها الشمولية. 

في عام 1979، كانت ولادة أول حالة ائتلافية حزبية في سورية، وذلك موازاة مع انطلاق المواجهة الدامية بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة آنذاك، حيث تشكل (التجمع الوطني الديمقراطي) وانضوى تحت مظلته القوى التالية:

1 – حزب الشعب الديمقراطي السوري (الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي – سابقاً).

2 – الاتحاد الاشتراكي العربي

3 – حزب العمال الثوري

4 – حركة الاشتراكيين العرب

5 – حزب البعث الديمقراطي

لقد اكتفى التجمع الآنف الذكر بإصدار بيانه الأول، ولعله البيان الوحيد، الذي تضمن عدداً من الثوابت الديمقراطية، لعل أبرزها التأكيد على التداول السلمي للسلطة، والتعددية الحزبية، والحريات بأشكالها كافة، وضرورة التغيير السلمي… إلخ، إلّا أن مجمل مضمون البيان ظل حبيسَ الرغبات، ولم تستطع أحزاب التجمع مجتمعةً أن تتقدم خطوة واحدة على المستوى الفعلي، إذ إن مبدأ (التشاركية) في العمل السياسي لم يغادر البيان المذكور، في حين ظلت أطراف التجمع المذكور تعمل كأحزاب كلٌ بمفرده.

وفي عام 2005 شهدت سورية الولادة الثانية لتحالف عدد من القوى والشخصيات الوطنية، وأعني بذلك (إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي)، وعلى الرغم من كل ما قيل عن الأسباب والدوافع التي كانت وراء تشكيله، إلّا أن نشأته في تلك الظروف تُعدّ حالة نوعية، قياساً إلى حالة الركود السياسي الذي امتد لعقود من الزمن، وكذلك قياساً لحالة القمع ووحشية القبضة الأمنية للسلطة آنذاك. لقد قدّم إعلان دمشق تصوراً نظرياً متقدماً للعمل الديمقراطي المشترك، إلّا أن مبدأ المشاركة في العمل السياسي سرعان ما تحوّل إلى صراعات بينية بين أطراف الإعلان، إذ أصبح الخلاف حول نسبة التمثيل، والمحاصصة، هو الشاغل الذي استهلك الجهد الأكبر للإعلان، فضلاً عن أن عدم قدرة إعلان دمشق على مواكبة الثورة السورية إبان انطلاقتها، وكذلك عدم قدرته على الإمساك ببعض مفاصلها بغية ضبط إيقاعها، قد كشف هشاشة الشعارات التي حملها الإعلان، وكذلك أظهر أن أسس العمل (التحالفي) أو (المشترك) لم تتوفر لها الحوامل المتينة التي تنهض عليها، ولعل أهم تلك الحوامل التخلص من النزعة الشخصانية والحزبية، والتماهي مع المصلحة الوطنية، بل كانت مجرد رغبات أو تصورات تفتقر إلى الكثير من المصداقية.

ولم تكن تجربة (المجلس الوطني السوري في أكتوبر 2011) بأفضل حالاً، إذ تشكّل المجلس نتيجة لحاجة وطنية داخلية، ولكن تصنيعه كان خارجياً، ولم يستمد عناصر بنائه من الداخل السوري، إذ إن معظم القائمين على تشكيله هم معارضون سوريون مقيمون خارج سورية منذ عقود من الزمن، وقسم كبير منهم انقطع اهتمامه وتواصله مع الشأن العام السوري نهائياً، وانهمك بأعماله وشؤونه الخاصة، وربما معظمهم لا يعرف الجغرافية السورية، جميع هؤلاء تداعوا في لحظة ما، وقاموا بتشكيل المجلس، في ظل غياب معايير دقيقة لنسب التمثيل سواء الحزبية أو المناطقية، بل المعيار الأقوى الذي كان مهيمناً هو العلاقات الشخصية، والشللية، في الوقت الذي كان ممكناً جداً أن يكون نصف المجلس من الداخل السوري، دون الإفصاح عن أسمائهم الحقيقية إذا اقتضت الضرورة الأمنية.

لقد شهد تشكيل المجلس الوطني تدافعاً وتزاحماً شديدين بين المعارضين السوريين في الخارج، ولعل الهاجس المشترك بين معظم المتدافعين هي صورة المجلس الوطني الليبي، الذي تصدّر قيادة الثورة الليبية، وحظي بدعم عسكري أمريكي وأوربي، في إسقاط نظام القذافي. الأمر الذي جعل معظم أعضاء المجلس الوطني السوري يحلم بتكرار السيناريو الليبي، وبالتالي يحلم كيف سيعود إلى دمشق بطلاً منتصراً للثورة وحاكماً أو مسؤولاً في البلاد.

لئن كان تشكيل المجلس الوطني حاجة وطنية، فإن تشكيل (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في سورية في نوفمبر 2012 )، كان حاجة إقليمية ودولية بامتياز. لقد ترافقت تلك الحاجة بانتقال الثورة السورية إلى الطور المسلح، حيث أصبحت البندقية في الداخل السوري هي المهيمنة، وغاب كلياً صوت المتظاهرين، وأصبح الوجه السلمي للثورة غائباً تماماً، الأمر الذي أتاح للأطراف الخارجية التحكم الكلي بتوجيه الحراك العسكري في الداخل السوري، وباتت الأجندات الخارجية تتعاطى مع قوى الثورة على مستوين اثنين:

الأول: التواصل المباشر مع الكيانات العسكرية التي بدأت تتشكل في الداخل السوري، دون المرور بأي قناة سياسية، (قطر: فيلق الرحمن – جبهة النصرة – أحرار الشام) (السعودية: جيش الإسلام) (تركيا: لواء التوحيد)، إضافة إلى الفصائل التي بدأت تتشكل في الجنوب السوري، والتي تشرف على تمويلها الولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك جيش الثوار في الشمال السوري الذي تموله أمريكا أيضاً.

الثاني: إن الطور الجديد للثورة (الطور المسلح) يقتضي – وفقاً لمصالح الأطراف الإقليمية والدولية – إيجاد حالة سياسية جديدة، ينظمها إطار مؤسساتي بصورة ما، ولكنها يجب أن تكون مقصوصة الجناح، قصيرة اليد، معدومة القوة، ليس لها أي تأثير مباشر، سواء على الداخل المسلح أو المدني، وليس ضرورياً أن تكون هذه الحالة السياسية تتأسس على أطر وطنية أو نسب تمثيل صحيحة أو أن يكون أعضاؤها أصحاب مصداقية وطنية أو سوى ذلك، ذلك أن مهمتها المرجوة منها – وفقاً للأطراف المؤسِّسة لها – تنحصر في كونها واجهة سياسية أمام المجتمع الدولي.

 وبعد مرور ما يقارب ثمانية أعوام على تشكيل الائتلاف، فما يزال كما هو، من الناحية التنظيمية أو الإدارية، أما أداؤه السياسي فقد ازداد سوءاً، بل هامشيةً، وذلك بعد أن سحبت هيئة التفاوض المبادرة منه كلياً، وأصبحت هي الجسم المفاوض باسم السوريين.

مازال الائتلاف يفتقر إلى بنيان إداري وتنظيمي سليم وشفاف، وما زال عديم القدرة على بناء أي جسور بينه وبين أشكال الحراك السوري كافةً، فضلاً عن عدم رغبة معظم أعضائه بالتخلي عن مناصبهم أو امتيازاتهم، ما يوحي بالافتقار إلى مصداقية الممارسة الديمقراطية في مسألة تداول السلطة.

لعل هذا الإخفاق في تجارب العمل السياسي (الجمعي) في سورية خلال المرحلة الممتدة من بداية الثمانينيات وحتى الوقت الراهن، يحيل إلى أمرين اثنين:

الأول: إن معظم القوى والأحزاب التي أعلنت انزياحها الإيديولوجي، وحاولت الاتجاه من الرؤية الشمولية نحو استلهام القيم الديمقراطية نظرياً وعملياً، لم يتزامن صنيعها هذا مع مراجعات عميقة وجريئة، ليس لمنظوماتها المعرفية والسياسية فحسب، بل لآليات عملها وبنيانها الحزبي والتظيمي أيضاً، وإنْ حصل شيء من هذا لدى بعضهم، فإن ما حال دون ظهور نتائج مرجوّة له، هو بقاء تلك القوى تحت رحمة العقول القديمة التي لا ترى فيمن يخالفها الرأي سوى مارقٍ أو مفارقٍ للجماعة.

الثاني: إن أسس العمل المشترك، (مبدأ الشراكة في العمل)، تستدعي – بداهة – التنازل النسبي عن المفاهيم والقناعات الفردية أو الحزبية، وكذلك تستوجب التخلّي عن المصالح الضيّقة لصالح الشأن الوطني العام، ولعلّ هذا الأمر هو أهم تجليات العلاقة التلازمية بين مفهومي (الوطنية والديمقراطية).

بقي القول: إن العمل السياسي الجمعي لا يمكن تأسيسه أو تكوينه بناء على رغبات أو مصالح مؤقتة فحسب، بل يحتاج إلى إرادات تتجاوز ذاتها أحياناً، بغية تأسيس طرائق جديدة للتفكير تراهن على الأفكار الخلّاقة والمبدعة، وليس على رواكم الأفكار والإيديولوجيات البائدة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني