الاستراتيجيّة الرّوسيّة بين سوريا وليبيا
يُعتبر المشكل الليبيّ من أدقّ وأعمقّ القضايا الجيوسياسيّة والجيوبوليتيكيّة والعسكريّة في منطقة الشّرق الأوسط بعد الملفّ السّوريّ وتداعياته الإقليميّة والدّوليّة على منطقة الشّرق الأوسط، إلاّ أنّ الملفّ اللّيبيّ الآن أشدّ سخونةً وأعمق صراعاً بين القوى الإقليميّة والدّوليّة المتنازعة والمتداخّلة فيه، من خلال ما تمتلكه ليبيا من طاقات وموارد اقتصاديّة من نفط وغاز، وهذا ما كرّره المبعوث السّابق إلى ليبيا “غسّان سلامة” بأنّ الصّراع على ليبيا هو صراع على الموارد، إذ تُعتبر موارد ليبيا من النّفط من أهمّ المورد العالميّة الّتي قدّرها الكاتب اللّيبي جمعة القماطيّ بأنّها حوالي (48) مليار برميل، وهي الأكبر على الصّعيد الإفريقيّ والتّاسعة على الصّعيد العالميّ، وتقدّر احتياطات النّفط الصّخري بـ (26) مليار برميل، وتشكّل صادرات النّفط والغاز 90% من الدّخل اللّيبيّ، إضافة إلى الغاز الّذي يقدّر بأكثر من (55) تريليون قدم مكعب. لهذا السبب الحيويّ والمحوريّ يحتدم الصّراع في ليبيا بين الفرقاء والخصوم الكبار ما حرّض الرّوس على الحضور العسكريّ واللّعب بقوّة في الورقة اللّيبيّة وخاصّة في وجود حالة من التّرهل والفراغ في الاستراتيجية الأمريكيّة وعدم التّدخّل في الملفّ الليبيّ ما ترك مساحةً فارغةً هائلةً للنّفوذ الرّوسيّ، وهو الّذي تضرّر وامتعض من تدخّل حلف الناتو عام 2011 الّذي قام بضرب قوّات القذّافي لتتمكّن الثورة اللّيبيّة من البقاء والمقاومة، ولذلك وجدت روسيا في الجنرال حفتر حليفاً جديداً للحضور الرّوسيّ مجدّداً في ليبيا بعد فترة الانقطاع إبّان انهيار الاتحاد السّوفياتي، والانقضاض بقوّة مجدّداً على الحقل اللّيبي لتزداد أوراقها الإقليميّة والدّوليّة قوّةً ونفوذاً من خلال مقايضة الغرب على الملفات السّاخنة الأخرى كسوريا وأوكرانيا، والضّغط على المجموعة الأوروأطلسيّة من خلال عدّة أوراق هامّة في ليبيا، تتشكّل من خلال الأوليّات التّالية: الضّغط على حلف النّاتو وأوربا من خلال التمركّز في المياه الدّافئة في البحر المتوسّط ما يشكّل خطراً مباشراً على الحلف بسبب القواعد العسكريّة الرّوسيّة الّتي تعتبر تهديداً مباشراً لهم، وهذا ما صرّح به الأمين العام لحلف الأطلسيّ بأنّ الوجود الرّوسيّ على السّواحل اللّيبيّة خطر استراتيجي على الحلف، كما أنّه يبسط نفوذه بقوّة على مساحة شاسعة بين نقطتين حيويّتين في المتوسط بين سوريا وليبيا إحداهما في شرق المتوسط والأخرى تقع جنوب المتوسط، ما يزيد الأوراق الرّابحة والفاعلة في الصّراع الدّوليّ الروسيّ مع الغرب الأوربيّ والأمريكيّ، كما لا يجوز إغفال البُعد الاقتصاديّ الممثّل في السّيطرة على جزء من القطّاع النّفطيّ الليبيّ للتّحكّم بمسارات أسعار بيع وإنتاج النّفط والغاز إلى أوربا وبهذا يصبح الرّوس أكبر من يمتلك لعبة ضبط التّحكّم بالنّفط عالميّاً وخاصّة الغاز إذا كسبوا هذه الورقة الجديدة لرفع أسعار وعائدات الغاز عالمياً لصالح الاقتصاد الرّوسيّ، وخاصّة بعد الاكتشافات الأخيرة لكميّات الغاز الكبيرة في الحقول اللّيبيّة في المتوسّط، كما لا يمكن إهمال تصدير السّلاح الرّوسيّ وعائداته على الاقتصاد الرّوسيّ إذ تُعتبر ليبيا في مناطق نفوذ حفتر ثالث دولة في إفريقيا بعد مصر والجزائر في استيراد السّلاح الرّوسيّ، ما جعل الحقل الليبيّ خزّاناً هامّاً واستراتيجيّاً للعقل الاستحواذيّ الاقتصاديّ الرّوسيّ الّذي يطمع بقوّة من خلال هذا النّفوذ والوجود الجيوسياسيّ المباشر في ليبيا أن يكون له فيها دور هامّ ورئيسيّ في إعادة الإعمار والبناء في الحقول المدنيّة والنّفطيّة والعسكريّة، ولكن السّؤال هل تتفعّل وتتغيّر المعطيات الأمريكيّة الّتي بدأت تتّضح بميلها للأتراك ومحاولة محاصرة الرّوس مرّةً أخرى، أم يبقى الدّور الأمريكيّ ضعيفاً رخواً خاصّة مع وجود تباين أمريكيّ فرنسيّ في الملفّ الليبيّ؟
أمّا الورقة السّوريّة فهي نقطة الارتكاز في المساومات الإقليميّة والدّوليّة، إلاّ أن روسيا لا تمتلك فيها مصادر للثّروة كما هو الشأن الليبيّ، ولكنّها تمتلك عمقاً عسكريّاً ولوجستيّاً ووجوداً شرعيّاً ولو على مستوى الشّكل السّياسيّ القانونيّ الّذي كبّل به بوتين حكومة المجرم بشّار الأسد في اتّفاقيّات دوليّة طويلة المدى لضمان المصالح الرّوسيّة مستقبليّاً، ولا يخفى أنّ التّنسيق الرّوسيّ السّوريّ كان مع الحكومة المركزيّة في سوريا المعترف عليها من الأمم المتّحدّة والمجتمع الدّوليّ رغم جرائم الحرب والجّرائم ضدّ الإنسانيّة ما يعطي الرّوس قدرةً على المناورة والحركة بشكل واضح وعلنيّ أمام المجتمع الدّوليّ باعتبار هذه الشّرعيّة المزيّفة مع النّظام السّوريّ، وهذا لا يتوّفر في ليبيا، إذ الحكومة الشّرعيّة المعترف عليها في الأمم المتّحدة هي حكومة طرابلس برئاسة السّراج، وهذه نقطة تضعف الحليف الرّوسيّ المفتقر للشّرعيّة الدّوليّة ولو في الظّاهر القانونيّ، فعلى ذلك لا توجد خطوط إمداد مباشرة ومعلنة بين روسيا وبين قوّاتها وحلفائها في ليبيا كما هو الشّأن في سوريا الّتي تتوفّر فيها عوامل الإمداد اللّوجستيّة والعسكريّة من قاعدتي طرطوس وحميميم، وبهذا تتّضح معالم الخلاف والتّباين بين الورقتين في الاستراتيجية الرّوسيّة التي تعتبر الورقة السّوريّة أصيلة وطويلة الأمد بينما تعتبر الورقة اللّيبيّة ورقةً إضافيّة للضّغوط على خصومها التّاريخييّن عسكريّاً واقتصاديّاً ما يعزّز الوضع الرّوسيّ في تسويات مستقبليّة مع الغرب عموماً والأمريكيين خصوصاً.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”