إيران.. ثورة النساء
لا يمكن وصف ما يجري في إيران بأدق من هذه العبارة، فقد انتفضت المرأة الإيرانية تحت الشادور في أهداف واضحة وصارخة، ومع أن العناء الذي يكابده الشعب الإيراني كثير ولكن هذه الثورة كانت غنية عن العالمين وقدمت نفسها بنفسها، ورفضت دخول شريك على مقاصدها واتخذت الشادور رمزاً للقهر الذي تعانيه، ومزقت قيودها وأعلنت أنها ثورة النساء.
ليس الهدف من مقالي هذا صب الزيت على النار، وكسوري فإنني لا أشتهي لأي بلد في الدنيا مصيراً شبيهاً بمصير بلادي، الذي لا يهون على الكافر، وأرجو أن تعتبر كلماتي نصحاً للسلطة في إيران، تحقق مصالحة الجميع وتحول دون مزيد من الانفجار المجتمعي، ولعل كلمات كهذه تسهم في وقف هذه الأحزان الأليمة التي تتعرض لها النساء قبل أن تتحول إلى فوضى تكوي شعباً بأكمله.
ولا أخفي أنني لا أزال معجباً بقيام الثورة الإيرانية والروح السلمية الغالبة التي صاحبتها حتى يوم رحيل الشاه، فقد كان المتظاهرون مثلاً فريداً في التوجه السلمي وكانوا يواجهون الدبابات بالورود وكانت ثورة يشترك فيها الشيوعي مع الإسلامي مع العلماني، قبل ان تتحول تلك الثورة في اتجاه ولاية الفقيه، ويجب ألا تعترض على ذلك من حيث المبدأ فقد كان هذا هو اتجاه الشعب الغالب، ولكنها للأسف لم تحسن إدارة ملف الاختلاف وتورطت في ممارسات قمعية لا يمكن تبريرها بحال.
وتواجه السلطة اليوم حناجر النساء، ومهما تحركت ماكينة الإعلام الرسمي في وصف الثائرات بالخائنات والمرتبطات والأجيرات والعميلات فإن ذلك لم يعد يقنع أحداً، ومن المؤلم بالنسبة لي كإسلامي أن أرى الحرية تتمثل في الغضب من الإسلام، واتهام رموزه وطقوسه، واعتباره سجناً للنساء، ومعادياً للحرية، وتشكيلاً جديداً للقهر والاستبداد، وصار من الصعب التمييز بين مطالب النساء في الحرية وقدرة الشريعة على تحقيق ذلك بعد أن أغلق النظام كل أفق في تقديم تأويل آخر للحجاب الشرعي، وأعاد فرضه بشكل أشد عسفاً وقهراً.
لست أدري كيف تغول الكهنوت على الناسوت، ولماذا بات الصوت المتشدد أعلى صياحاً وأكثر نفوذاً، وكيف أغلقت أبواب الاجتهاد التي تتميز بها السياسة الإيرانية البراغماتية، وحشرت النساء في الزاوية وصار الحجاب هو قضية الكفر والإيمان، والوطنية والخيانة!.
والحال من بعضه فالحساسية التي تملكها المجتمعات الشرقية تجاه المرأة مرعبة، وحين أصدرت كتابي المرأة بين الشريعة والحياة قبل عشرين عاماً وتحدثت فيه عن الحجاب كأدب إسلامي كريم وليس فرضاً واجباً ومع أن الخلاف فيما كتبناه قليل وهو خلاف في الرتبة لا في النوع ولكن الغضب كان ماحقاً وتلقيت علقة ساخنة من أشد المشايخ نفوذاً، حتى من أحبهم وأقربهم إلى قلبي، وبدا لي أن كل الدروب معبدة للاجتهاد وتقديم الجديد إلا درب المرأة، فلا يجوز الاجتهاد فيه بشيء وعليها أن تلتزم ما حدده لها السلف قبل ألف وأربعمائة عام في زواجها وطلاقها وطعامها وشرابها ولباسها وحجابها وحيضها ونفاسها ولون ثيابها، وأي تعديل في هذه المنظمة الصلبة يعتبر تهديداً للدين وانحلالاً في المجتمع وهدماً للثوابت.
ومن المؤلم أن المتشددين لو أتيحت لهم الفرصة فإنهم سيكررون الشيء نفسه الذي تعيشه إيران الشيعية وأفغانستان السنية، فالتشدد واحد في الطائفتين، والموقف من المرأة يسبب الغضب نفسه سنياً وشيعياً، ومن المؤسف أنه لا يزال الفقهاء الذين يجتهدون في تحرير المرأة قلة مذعورة، فيما يؤثر سائر الناس السلامة.
وفي استطراد سريع فإن خلاصة الدراسة التي أصدرتها آنذاك أن الحجاب أدب إسلامي كريم وليس فرضاً ملزماً، وأنه في الواقع ليس واحداً من أركان الإسلام الخمسة، ولا واحداً من أركان الإيمان الستة، ولم يرد في تركه أي حد من الحدود الشرعية في الدنيا، ولم يرد في القرآن أي عقاب عليه في الآخرة أيضاً، بل إن سائر الفقهاء الذين كتبوا في الكبائر لم يعدوا السفور منها، واعتبروه من الصغائر التي تذهب بالاستغفار، وقد قدمنا ذلك بسلسلة من الأدلة البرهانية وفق قواعد المحدثين في السند والمتن.
ومع أن هذا الرأي المنفتح لا يزال مضطهداً عند رجال الدين، ولكنه ليس كذلك عند الفقهاء وأقصد بهم أولئك الذين درسوا أصول الفقه بعمق وأصول القانون بعمق، وعملوا في إعداد القوانين، فقد ذهبت الدول الإسلامية كلها إلى اعتبار الحجاب حرية للنساء، وتوقفت هذه الدول عن التنمر على النساء اللاتي يخترن السفور، الذي صنف بامتياز شأناً شخصياً، لا يجوز الإكراه عليه بحال، وتتأيد هذه الدول بمجامع كبيرة من الفقهاء وعلماء الدين على اختلاف مذاهبهم، ولم يبق في العالم دول تفرض الحجاب إلا إيران وأفغانستان.
فهل يعقل أن العالم الإسلامي كله فقد رشده ودينه إلا إيران وأفغانستان؟
إن جهود الوعي ينبغي أن تنصب بشكل أساسي على خطاب الكهنوت الذي يتبنى موقفاً معادياً للمرأة مهما تظاهر بالعدل والكرامة، فالمرأة إن سفرت ملعونة، وإن نمصت ملعونة، وإن وشمت ملعونة، وإن وصلت ملعونة، وإن امتنعت من زوجها ملعونة، وعند طالبان فإنها إن تعلمت فهي أيضاً ملعونة!.
إنني لا أجهل أن هذه الأحكام قد وردت في نصوص من السنة مروية بسند قوي، ولكنني لا أصدق ذلك كله، فالنص إذا خالف ما هو أوثق منه فإنه يعتبر عند المحدثين شاذاً ولو كان صحيح السند، وقناعتي أن أصح من هذه النصوص جميعاً أن رسول الله كان على خلق عظيم، وأن المؤمن لا يكون لعاناً ولا شتاماً ولا متنمراً على النساء، وأن أرق وصاياه وأوامره هي التي وجهها للنساء ، وقال رفقاً بالقوارير وكان آخر عهده بالدنيا استوصوا بالنساء خيراً، ومن المستحيل أن يصب اللعنات بلا حساب على ممارسات بسيطة ليست أصلاً في الإيمان ولا في الأخلاق ولا في الحقوق.
لقد صار العالم الإسلامي في مكان آخر، حتى الدول الإسلامية التي طبقت ذلك بصرامة عشرات السنين تغيرت ودخلت في عصر آخر، من دون أن تخرج من الإسلام لقد رأت في الإسلام نفسه حلولاً واقعية واجتهادات مضيئة تستطيع أن تقدم البدائل الواعية التي تكفل حرية المرأة وستجد مؤيداتها في القرآن والسنة وعمل المستبصرين من فقهاء الأمة.