fbpx

إشكاليّاتٌ نُخبويّة: استعصاء الحوار السوري/السوري

0 261

نحاول في هذا المقال، الإحاطة ببعض الإشكاليّات التي تلازمنا منذ عقدٍ كامل (وهي إرث الحقبة الاستبدادية)، تُعيقنا عن إنتاج ثقافةٍ ما بعد ثورية، أو أنّها مُشكَلَةٌ حتى في تحضير أدواتها للوصول إلى تلك الثقافة، وأول مُشكِلٍ فيها يتمثّل في استعصاء الحوار السوري/السوري، والذي نقصد به حوار النخبة السورية فيما بينها، والتي من المُفترض أن يكون لها خطابٌ مختلفٌ عن خطاب الرأي العام، وأن تقود هذا الرأي وترتقي به، في عملية تفاعلٍ وتفاعلٍ متبادلٍ بينها وبين الرأي العام.

شروط خطاب هذه النخبة، أن يكون خطاباً سوريّاً حريصاً على مصلحة البلاد والشعب السوري، بعيداً عن إملاءات مُموِّلين خارجيّين يشتغلون على مصالحهم، وهنا تبدأ الفُرقَة بين أفراد هذه النخبة، حيث يشتغل بعضهم، وفق تلك الإملاءات التي ترنو في بعضها إلى تفكيك ما تبقّى لنا من هُويةٍ ثقافيةٍ وسياسيّة.

يترافق ذلك، مع شرط الاشتغال العقلاني المضبوط، وهي – من المفترض – أن تكون عقلانيّةً ديموقراطيةً تؤمن بالمساواة الفردية والفكرية، بعيداً عن خطابين تخريبيّين هما الخطاب الشعبوي والآخر الديماغوجي. وربّما طيلة انتظار المنجز الثوري، وتأخّره، قاد بعض أفراد هذه النخبة، ولأسباب لا يمكن حصرها، إلى أن تتخلّى عن عقلانيتها وأن تتبنّى خطاباتٍ عُصبويّةً متعدّدة الأوجه، يمكن التذكير ببعضها سريعاً:

– خطاب العصبويّة الدينية/العَلمانية، ويُصرُّ أطراف هذا الخطاب من كلا الاتجاهين، على تهديم الآخر وإلغاء دوره، بل تصل بعض الخطابات العصوبيّة هنا، إلى محاولة إلغاء وجود الآخر تماماً من الهُوية الثقافية السورية، من خلال الإصرار على أن الإشكال السوري يقوم في أحدهما فقط. وما يتفرّع عنه من خطاب العَلمانية الطائفية، وهو خطابٌ أنشأه نظام الأسد مبكراً، من خلال عَلمانيةٍ متطرِّفةٍ مُشوّهةٍ تستهدف مذاهب بعينها.

– خطاب العصبويّة العرقيّة، وهو شبيهٌ بسابقه، غير أنّ المُستحدَث فيه، ليس العصبويّات القائمة على الأعراق الرئيسة المكوّنة للشعب السوري فحسب، بل خطابٌ مُستحدَثٌ لم يحظَ فيما مضى بحيزٍ ملحوظٍ للظهور، إلا بعد الانفلات الخطابي والهُويّتي ما بعد الثوري. وهو خطابٌ يحاول أن يُقصِي كاملَ العرب عن سورية، وأن يُزيّف تاريخاً يمتد لقرونٍ وألفياتٍ من السنين.

– خطاب العُصبوية الجهوية، وهو خطابٌ قديمٌ رثٌّ، تمّ تجديده بصورةٍ إقصائيةٍ تهديميّة، يرنو إلى إغلاق المجال الثقافي على ذاتٍ ضيقة، يمكن فهمها والتعاطي معها. فهو خطابُ استعلاءٍ في أساسه، يحاول أن يُصنّف السوريين بين سادةٍ مدينيّين وأتباعٍ ريفيين، أو بين ثوريّين ريفيّين ومنتفعين مدينيّين.

ونلحظ هنا، أنّه كلّما تعمّق وجود خطابٍ من هذه الخطابات في البيئة الثقافيّة السورية، تسعى مجموعةٌ نخبويّةٌ إلى استحداث خطاباتٍ عصوبيّةٍ عنصريةٍ جديدة، أكثر ضيقاً، لا نعلم أين ستصل الحال بهذا التضييق.

هذه المُقدِّمات العُصوبية، فرضت نفسها على جلسات الحوار السوري/السوري الموسّعة، وهنا يجب الانتباه إلى أنّ هناك جلساتٍ ضيقة، تقتصر على أفرادٍ بذواتهم، لا باتجاهاتهم السياسية والفكرية، كانت أكثر جدوى من اللقاءات المفتوحة، فاللقاءات الضيقة، هي بالأساس قد قامت بين أفرادٍ متقاربين في توجّهاتهم، لكن اللقاءات الضيّقة تلك غير قادرةٍ على فرض نتاجها على الرأي العام السوري، أو قيادته، أو تصحيح مواضع الخلل فيه. دون أن ننفي وجود لقاءاتٍ مُوسَّعةٍ مُنتِجةٍ ومهمّة، لكنّنا نحاول تسليط الضوء على ما هو مُعِيقٌ لمسارنا، أو تخريبيٌّ فرداني.

حيث فرضت هذه المُقدِّمات العُصبوية، حالة استعصاءٍ مزمنٍ منذ عقد، فلم نستطع نحن السوريون، بناء خطابٍ سياسيٍّ ثقافيٍ هُويتيٍ مُتَّفقٍ حوله، يكون مرجعيةً لنا في العمل الفكري والسياسي، ويكون ضابطاً للانحرافات التي تزيد في تعقيد الإشكال الهُويتي والثقافي السوري.

ترافق ذلك، مع بروز إشكالياتٍ فرعيةٍ في البيئة الثقافية “النخبوية”، ساهمت في مزيد من التخريب، والاستعصاء، وإعاقة بناءٍ نتاجٍ جامع. وأبرزها:

– تسلّط شخصياتٍ لا تمتلك مؤهّلاتٍ فكريّة، بخطابتها الشعبويّة/الديماغوجيّة، نتيجة تمويلٍ خارجيّ، أو نتيجة ارتقاءٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي “مشاهير التواصل الاجتماعي”، أو علاقاتٍ شخصية تفرضها على البيئة النخبويّة السورية.

– انحدار لغة الحوار إلى مراتب متدنّية، تشمل شتائم أخلاقيةً وشرفية، تطال المختلفين فكرياً، وإن لم تكن مباشرة، فكثيراً ما كانت عبر تحريض جمهورٍ ما ضدّ المختلفين فكرياً.

– البحث عن منافع شخصيةٍ فوريّةٍ من هذه اللقاءات، سواء أكانت منافع ماديّة أم منافع تتعلّق بالشهرة والارتقاء.

– عدم الثقة في الآخر، وهي إشكاليةٌ موروثةٌ وعميقةٌ فينا، تحتاج إلى سنواتٍ من عمليّات بناء الثقة المتبادلة، وخصوصاً أنّ السطلة الاستبدادية ما تزال قائمة في دمشق.

– وهناك تيارٌ شعبوي، يحاول تحريض الرأي العامّ ضدّ النخبة، يساهم في رفض دورها، وإهانتها شعبياً، حتى باتت مصطلحاتٌ من مثيل: نخبة ومثقّف ومفكّر وأكاديميّ وباحث، مثارَ سخرية لدى جمهور أولئك المحرضين، وبات الحديث في الثقافة مَدعاةً للسخرية، وإن كان دور هذا المتغيّر محدوداً، لكنّه يساهم كذلك، في منع النخب السورية من القيام بدورها.

– استقالة كثير من النخب من دورها المجتمعي، نتيجة إحباطاتٍ أو ضغوطاتٍ أو تهديدات، أو انشغالات بالشأن الشخصي الأكثر أهمية.

– وعلى العكس من النقطة السابقة، كان هناك مشتغلون في الشأن العام، مستندون إلى فكرة “المعرفة الفطرية”، وهي معرفة ابتدائيةٌ شَفَاهيّةٌ مُتَنَاقلَةٌ، ليست بعلمية، بقدر ما هي آراءٌ شخصيةٌ مُسبقةٌ، لم تقم على أسسٍ واضحة، سببها الرئيس، إصرار كثيرٍ من هؤلاء على أنّهم قادرون على الاشتغال في كلّ ما يتعلق بالشأن العام.

– يمكن أن نضيف أيضاً، مشكلة الحوار القائم على تصيّد الآخر، والسعي لجعل الحوار مسألةً شخصية، يستهدف من خلالها أحدهم آخر، لتصفية حساباته، أو للصعود على حسابه، وسوى ذلك.

– إلى جانب تلك الأسباب الذاتية، هناك أسبابٌ موضوعية، منها عدم البنائيّة في الحوار، وتشعّب مواضيعه، وتعثّر تطبيق مقترحاته، وغياب دعمٍ دوليٍّ له، وما إلى ذلك.

وفيما نُصِرّ – في تهرّبٍ من مسؤوليّاتنا أمام ذواتنا – منذ عقدٍ كامل، على أنّ كلّ سلبيةٍ أو تأخّرٍ أو سوء تقديرٍ أو خلافٍ سوري/سوري، هو صنيعة النظام الأسدي، وإن كان في جزء منه كذلك، لكنّ هذا السلوك “غير المضبوط” كنّا نحن حواضنه، بقبوله وتداوله. فيما من المفترض، أنّه وبعد عشرة أعوام، أو عشرية سوداء، قد تجاوزنا إرث نظام الأسد.

ما نحتاجه لضبط هذه الاختلالات، محدّدان أساسيّان، غير متوفرين لنا:

– الأول، سلطةٌ ضابطةٌ حاكمة، ما بعد ثورية، وهو استحقاقٌ مؤجّلٌ إلى ما بعد التغيير السياسي في سورية، ونحن بالتالي محكومون باستمرار تلك الاختلالات لفترة قادمة.

– وثانيها، ضبطٌ نخبويّ، من خلال تحديد أطرٍ عامّة، مقبولةٍ للاشتغال في الشأن العام، ورفض تلك الخطابات التحريضية العصبوية. وهو محددٌ من الصعب الاتفاق حوله، نتيجة انقساماتنا الحادّة التي أعاقت بناء خطابٍ سياسيٍ جامع.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني