fbpx

أما لهذا الليل السوري أن ينجلي؟

0 148

لم تكن سورية استثناء فريداً في سنوات الوحدة (1958-1961) وفي الفترة بين انقلاب البعث (1963) وانقلاب الأسد الأب (1970)، فقد كان ذلك في ذروة الحرب الباردة، حيث ظهرت البلدان التي سميت بالديمقراطيات الشعبية واستندت إلى الشرعية الثورية واقتدت، إلى هذه الدرجة أو تلك، بالاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، وتحدثت بخطاب العدالة والطبقات الكادحة وإقامة “النظام الاشتراكي”، وحُكمت بالحزب الواحد، الذي قاد الجماهير خلف الشعارات التي تبين بأنها لا تساوي ثمن الأحبار التي كتبت بها.

ثم أجرى النظام السوري بعد عام 1970 تعديلات سياسية شكلية، مثل تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية (1972) وكتابة دستور جديد (1973)، وخاض مع مصر حرب تشرين/أكتوبر (1973). بالنتيجة، غلبت البراغماتية على سياسات النظام، وتحول إلى نظام وظيفي متعدد الارتباطات والمصالح، وتحسنت علاقاته مع دول الخليج، وتأمنت له شبكة من العلاقات الدولية الحامية، فقد رفع مستوى علاقاته مع الاتحاد السوفياتي إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، وحصل على الضوء الأخضر لدخول لبنان (1976) بتشجيع من الإدارة الأميركية وبموافقة إسرائيل، فسُمح له بالوجود حتى نهر الأولي جنوب صيدا، بحيث لا يعيق قيام إسرائيل بعملياتها في جنوب لبنان.

وعلى الرغم من انهيار أنظمة المنظومة الاشتراكية بين عامي 1989 و1991، فقد استوعب النظام هذه الصدمة من خلال مشاركة الولايات المتحدة في حرب تحرير الكويت عام 1990، مع الحفاظ على طبيعته في الداخل، كنظام شمولي. كما وجد لنفسه مهمة أخرى لاقت ترحيباً في الغرب، وهي التعاون الاستخباراتي في ملفات مكافحة الإرهاب.

مكن ذلك النظام من الانتقال إلى مرحلة جديدة وتوريث الحكم إلى الأسد الابن عام 2000. وعلى الرغم من بعض الآمال التي رافقت هذه الفترة التي أطلق عليها ربيع دمشق، إلا أن النظام عاد إلى نهجه السابق في القمع وكم الأفواه. تلا ذلك القيام بخطوات اقتصادية للتحول من “النظام الاشتراكي” (اقرأ: رأسمالية الدولة) إلى اللبرلة الاقتصادية، في تقليد للصين الشعبية، لكن تفشي الفساد والمحسوبية وغياب المساءلة في مختلف مؤسسات النظام أفشل هذه التجربة، ولم تسفر سوى عن استيلاء رجال الأعمال المقربين من النظام على معظم الثروة الوطنية. إلى ذلك، استمر قمع الحريات وحظر أي نشاط سياسي، ما وضع سورية على صفيح ساخن، ومهد لانتقال شرارة الثورة في عام 2011 إلى سورية، بعد تونس ومصر وليبيا واليمن، وما استتبع ذلك من تداعيات معروفة للقراء.

كان من الواضح، وبعد عدة أشهر من اندلاعها، بأن الثورة لن تصمد بالطريقة التي بدأت بها كثورة حرية وكرامة، بسبب القمع، ولأن انفجار الطاقة، الذي نجم عن ذلك الاحتقان السياسي والاجتماعي في عهد الاستبداد المديد، كان يصعب ضبطه، ولم تتوفر تلك القيادة الاستثنائية للانتفاضة لتترجم هاتين الكلمتين إلى برنامج وطني، في بلد تهشّمت وحُظرت فيه السياسة لعدة عقود. كما لم تستطع المعارضة التقليدية ولا الهيئات التي انبثقت عنها التكيف مع الظروف الثورية المستجدة، ما قاد إلى المزيد من التدخل الخارجي وتفشي التطرف، ودخلت الثورة في ذلك المسار الدامي الذي بدا وكأنه بلا نهاية.

مهما يكن، سينتهي الصراع في سورية وعليها في وقت ليس ببعيد، وضمن ممكنات يحددها تقاطع المصالح الإقليمية، وبخاصة الدولية. ومع أن نهاية الصراع لن تكون في صالح الشعب السوري في المدى القريب، إلا أنها ستفتح الباب ليستعيد السوريون قرارهم بالتدريج، ويتخلصوا من تحكم الأجهزة الأمنية وقوى الأمر الواقع الاستبدادية الأخرى، ويعبروا عن خياراتهم الوطنية المستقلة في نهاية المطاف، وعلى حساب النفوذ الخارجي.

من مؤشرات نهاية الصراع ما عبر عنه المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، مؤخراً، الذي دعا روسيا للعمل مع الولايات المتحدة من أجل حل سياسي في سورية. وإذا أضفنا إلى ذلك مؤشر تصدع نواة النظام، بعد نشر فيديوهات الملياردير رامي مخلوف، ومؤشر تصاعد التسريبات الروسية حول فساد نظام الأسد وأنه هو نفسه أصبح عبئاً على الروس، فإننا على موعد غير بعيد على ما يبدو للتفاوض بين الروس والأمريكان حول تفاصيل الحل في سورية، بما يتضمنه ذلك من تحييد لنفوذ الدول الإقليمية، وخاصة إيران، وبمساعدة الضربات الجوية الإسرائيلية ضد مواقع الميليشيات المدعومة من هذه الأخيرة. ولا يُستبعد أيضاً أن تقوم الولايات المتحدة بإعطاء الضوء الأخضر إلى روسيا لتقوم بالدور الرئيس لمعالجة الملف السوري.

تتسرب الحرية من بين أصابع المستبد وهو غافل، ولابد أن تطيح به الأقدار مهما راوغ التاريخ؛ إنه الدرس الذي لم يستوعبه أي مستبد في التاريخ، وإن فهمه، يكون الوقت متأخراً للحيلولة دون حدوث الخراب الذي يتركه الاستبداد قبل أن يطويه التاريخ إلى غير رجعة.

على أنقاض كل هذا الدمار ومن رحم البؤس وفداحة الظلم ستزهر الحرية في سورية من جديد، مخاتلة كشمس تشرق من وراء سحب داكنة، وبعد أن تلاعبت الأقدار بثورة الحرية والكرامة وتكالب عليها المفترسون في الداخل والخارج وعبث بها القريب والبعيد واستغلها المهووسون والمتسلقون، ليعود مجرى نهر التاريخ إلى مساره وانتظامه واتساقه مع مسيرة التطور الحقيقية، بما يعنيه ذلك من بناء لدولة القانون والمواطنة والحريات.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني